الحدث التونسي، على صفيح من نار..!!

حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

 

كانت النيّة تكريس مقالة اليوم للقسم الثاني من التعقيب على كتاب مايكل وولف عن أيام ترامب الأخيرة في البيت الأبيض. ولكن الحدث التونسي يفرض نفسه، وتصعب النجاة منه لأسباب سياسية وفكرية وأخلاقية في آن.
ثمة أكثر من مدخل للكلام عمّا حدث، ويحدث في تونس الآن، وثمة أسئلة لا ينبغي تجاهلها أو الالتفاف عليها، بصرف النظر عن الدوافع والأسباب. وفي طليعتها سؤال: هل ما حدث في تونس انقلاب على الدستور أم لا؟ الجواب: نعم. وهل في أمر كهذا ما يعرقل التحوّل الديمقراطي في تونس؟ الجواب: نعم. وهل في الانقلاب، كما في تعطيل العملية الديمقراطية، والعودة إلى النظام الشمولي ما يُهدد السلم الأهلي، ويعزز احتمال العنف والإرهاب؟ الجواب: نعم.
بيد أن الإجابة بنعم لن تكون مفهومة دون التصريح بتحيّزات أيديولوجية لكاتب هذه السطور، يصعب إنكارها، وفي طليعتها تحفّظات عميقة بشأن الإسلام السياسي وممثليه، وقناعة (لا يتسع المجال، هنا، لتبريرها وتفسيرها) بأن الفروق بين «المتطرفين» و»المعتدلين» من هؤلاء تنحصر في الدرجة لا في النوع، وبأن هؤلاء أهم طلائع الثورة المضادة، وجيشها الاحتياطي، وقد ألحقوا الضرر بكل بلاد شاء حظها العاثر أن يظهروا فيها.
هذه التوضيحات ضرورية، وهي مفيدة على نحو خاص في استجلاء معنى ودلالة ورطة أخلاقية يفرضها الحدث التونسي، ناهيك عن إشكالية سياسية وفكرية في آن، بالنسبة لعامل في الحقل الثقافي، ومعلّق على الشأن العام، يؤمن بالعلمنة والديمقراطية كترياق وحيد لكارثة النسق العربي ـ الإسلامي. الورطة أن تجد نفسك مرغماً على الوقوف مع طرف لا لأنك تثق بما يقول، ولكن لأن كراهيتك للطرف الآخر تعفيك من كل تحفّظ محتمل.
تقول جماعة النهضة الإخوانية كلاماً فارغاً عن الديمقراطية، وعن الثورة، التي تطالب هي و»الجزيرة» القطرية، و»اتحاد علماء المسلمين»، وتركيا الأردوغانية بحمايتها، وفي المقابل تقول الشموليات العسكرية، والنفطية، في العالم العربي، كلاماً فارغاً يقطر منه التشفي بما أصاب الإسلام السياسي في تونس، حتى حفتر «مبسوط» مما وقع في تونس، والمرزوقي، الذي يبدو كمزحة ثقيلة يخشى على الديمقراطية.
ولا سبيل، في الواقع، للتحرر من ورطة كهذه دون التمرّد على ثنائية إما أن تكون هنا أو هناك، أي على كل ما يجعل منك مغفلاً مفيداً.
والأسوأ من هذا كله أن يحاول البعض تفادي الورطة بتجاهلها. ومع ذلك، وبهذه الطريقة ننتقل من الأخلاق إلى السياسة، إذا كان في التمرّد على ثنائية كهذه ما يُريح الضمير، إلا أن هذا في ذاته لا يكفي لمقاربة الحدث التونسي بطريقة سياسية.
تكلّمنا قبل أسبوع عن أيام ترامب الأخيرة في البيت الأبيض، التي توّجتها محاولة اقتحام الكابيتول هِل في واشنطن. كانت تلك محاولة انقلابية في نظر البعض. وقد استبعد وولف، في كتابه، أن يكون ترامب خطط لمحاولة انقلابية، لماذا؟ لأنه معطوب ومختل، كما يقول.
لست مقتنعاً بهذا التفسير، رغم ما تستنفر أوصاف من نوع المعطوب والمُختل، يطلقها كاتب أميركي رصين ومتزن على ترامب، من سرور. أعتقد أن ما حدث كان محاولة انقلابية، ولكن مؤسسات الدولة الأميركية، ومؤسسة الجيش على نحو خاص (نحن من يملك البنادق، كما قال الجنرال ميللي، رئيس أركان الجيش)، حسمت الأمر لصالح النظام الديمقراطي.
لا نعرف إلى متى ستصمد مؤسسات الدولة الأميركية، وكذلك الجيش. ولكن يكفي الآن الكلام عن مجتمعات ومؤسسات وتقاليد قوية تصمد وتحافظ على النظام الديمقراطي. ولا مثيل، في الواقع، لهذا كله في العالم العربي، وهذه كارثة العالم العربي ومأساته الكبرى. والأسوأ من هذا كله، أن من يملكون البنادق، (سواء القوات النظامية، أو ميليشيات الإسلام السياسي الإرهابية والمسلّحة) لا يقيمون وزناً لدستور، ولا يحترمون لعبة سياسية لا تضمن لهم الفوز بالجمل وما حمل.
وعلاوة على هذا وذاك، وما زلنا في الموضوع السياسي: من عمى البصر والبصيرة تجاهل حقائق من نوع أن الإجراءات التي اتخذها الرئيس التونسي تحظى بتأييد قطاعات واسعة من المواطنين في تونس، وأن صعود جماعة النهضة الإخوانية في المشهد السياسي التونسي، وسدة الحكم، بعد الإطاحة ببن علي في الموجة الأولى للربيع العربي، أضر بالبلاد والعباد.
وهنا أحتكمُ إلى بيان الاتحاد العام التونسي للشغل (من أشرف وأنظف الفاعلين النقابيين والسياسيين في تلك البلاد) الذي قال، يوم أمس، إن الأزمة التي تعيشها البلاد: «وصلت إلى حد تعطل دواليب الدولة وتفكك أواصرها وأجهزتها وتردي الوضعين الاجتماعي والاقتصادي، وتعمق معاناة الشعب، وتزايد الفوارق بين الفئات والجهات، وتفشي الفساد ونهب المال العام واستشراء مظاهر المروق على القانون وخرقه، بالغلبة طوراً وبتطويع التشريعات والأجهزة ومنها القضاء طوراً آخر، لصالح لوبيات متنفذة وأطراف استباحت الحقوق والبلاد».
إذاً، الأزمة، ومحاولة الإفلات من آثارها الكارثية بإجراءات استثنائية من نوع تعطيل العملية السياسية، أشياء واقعية. ولكن ما يرتسم كعلامة استفهام كبيرة في الأفق: هل في الإجراءات الاستثنائية ما يمثل ضمانة للخروج من نفق الأزمة، التي وضعت تونس على «صفيح من نار»، (كما جاء في بيان اتحاد الشغل) أم أن نفقاً جديداً ينفتح الآن؟ هذا سؤال الأسئلة.