حول مسيرة محاصرة السلطة الفلسطينية وأهدافها

image-XOWNQXMF98LBU10D
حجم الخط
بقبولها المشاركة في "مؤتمر مدريد"، 1991، تبنت أطراف ما سمِّي جبهة "الصمود والتصدي" العربية، بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية، خيار السادات القائم على التفاوض الثنائي، كمشروع أميركي لتسوية الصراع العربي الصهيوني، وجوهره القضية الفلسطينية، على أساس معادلة "الأرض مقابل السلام". 
بذلك دخل النضال الوطني الفلسطيني مرحلة نوعية خطيرة، عنوانها الأساس، تعميم تخلي الرسميات العربية عن واجبها القومي تجاه القضية الفلسطينية، وتسليم ملفها السياسي والدبلوماسي للولايات المتحدة. 
لذلك لم يكن مفاجئاً ولا مستغرباً ألا تسفر مفاوضات "مدريد" سوى عن إبرام معاهدة "وادي عربة" في العام 1994 بين الأردن وإسرائيل، بينما واصلت الأخيرة التمسك بشروطها تجاه القضية الفلسطينية خصوصاً، حيث رفضت بصورة قاطعة وقف سياسة الاستيطان كشرط لاستمرار المفاوضات.
وبإبرام "اتفاق أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، 1993، اتسعت حدود وأوجه التحكم الأميركي بالقضية الفلسطينية، حتى شمل المجالين الأمني والاقتصادي علاوة على السياسي والدبلوماسي، لذلك لم يكن مفاجئاً ولا مستغرباً أيضاً أن ينتهي العمر الزمني لتعاقد أوسلو في أيار 1999 من دون التوصل إلى اتفاق حول جوهر الصراع، أو ما بات يسمى "قضايا الوضع النهائي"، اللاجئين والقدس والحدود والمستوطنات والمياه، بل حتى من دون التزام إسرائيل بتنفيذ الأساسي من بنود "المرحلة الانتقالية"، خصوصاً تلك المتعلقة بالأرض التي ارتفعت وتيرة مصادرتها واستيطانها وتهويدها وتقطيع أوصالها، بالطول والعرْض، بصورة غير مسبوقة.
آنذاك اتضح بما لا يقبل مجالاً للشك أن الولايات المتحدة في غير وارد الضغط على حكومات إسرائيل من أجل التوصل ولو إلى "حل وسط" أو "تسوية متوازنة" للقضية الفلسطينية. 
بل اتضح أيضاً أن الولايات المتحدة باتت تتحكم بملف هذه القضية، بما هي جوهر الصراع العربي الصهيوني وصراعات المنطقة عموماً، لدرجة التجرؤ على التعامل معها كمعضلة أمنية لحليفها الإستراتيجي الثابت إسرائيل، ما يعني تفصيل حلها، وللدقة تصفيتها من جميع جوانبها، على مقاس شروط إسرائيل ومطالبها الأمنية التي لا سقف لها. 
في حينه وقف المجلس المركزي بوصفه الهيئة التشريعية الفلسطينية التي أقرت، نيابة عن المجلس الوطني، أي نيابة عن الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، أمام مغزى حقيقة انتهاء العمر الزمني لـ"اتفاق أوسلو" من دون التوصل إلى اتفاق حول جوهر الصراع، لكنه، (المجلس المركزي)، عوض مراجعة خيار التفاوض الثنائي برعاية أميركية مراجعة سياسية جدية وشاملة، قام بإقرار التمديد الواقعي لاتفاق أوسلو كتعاقد سياسي والتزامات أمنية واقتصادية.
لقد أضاع التمديد الواقعي لتعاقد أوسلو السياسي، رغم انتهاء عمره الزمني إلى طريق مسدود، فرصة تجميع الإمكانات الوطنية والقومية وحشدها، بما يجعل التنصل منه والتحلل من التزاماته الأمنية والاقتصادية، بأقل كلفة ممكنة. 
ففي حينه لم تكن الحالة الوطنية على ما هي عليه الآن من انقسام عمودي مدمر، وبالمثل لم تكن الحالة العربية تواجه ما تواجهه الآن من تقتيل وتذبيح وتدمير وتخريب وتجزئة لمصلحة إقامة "إمارات" المذاهب والطوائف التكفيرية الإرهابية على انقاض الدولة الوطنية العربية، ما يصب الحب، بمعزل عن النوايا، في طاحونة تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية وتهميشها لمصلحة "محاربة الإرهاب" التي صارت القضية الأولى للعرب والمنطقة والعالم. 
تكررت الفرصة ذاتها من دون أن يتم اغتنامها بعد اتضاح حدود ما يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة تجاه جوهر الصراع في مفاوضات كامب ديفيد المفصلية واندلاع الانتفاضة "الثانية"، 2000، والاجتياح الشامل للضفة، 2002، وفك الارتباط الأحادي مع قطاع غزة، 2005.                               
بإضاعة تلك الفرص تمادت حكومات الاحتلال والإدارات الأميركية لدرجة اعتبار تمسك قيادة منظمة التحرير بتعاقد أوسلو السياسي إلى ما لا نهاية وتنفيذ التزاماته الأمنية والاقتصادية من طرف واحد وبلا أي مقابل تحصيل حاصل. 
تجلى التمادي في تصعيد الهجوم السياسي والميداني غير المسبوق الذي تنتهجه حكومة المستوطنين بقيادة نتنياهو، وهو الهجوم الذي لم تحرك الإدارة الأميركية تجاهه ساكناً، بل ورعته كسياسة استيطانية تهويدية عدوانية متصاعدة لفرض الشروط التفاوضية الصهيونية التعجيزية، بما فيها شرط الاعتراف بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي". وتجلى أكثر في أن لا يمنع تأكيد قيادة منظمة التحرير على التمسك بخيار التفاوض الثنائي برعاية أميركية، إدارة أوباما من أن تحبط الحصول على الأصوات اللازمة لعرض مطلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية على التصويت في مجلس الأمن، 2011، أو من التصويت ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الاعتراف بالدولة الفلسطينية كعضو مراقب، 2012، أو من أن تحول دون حصول مشروع القرار الفلسطيني - العربي لاعتراف مجلس الأمن بالدولة الفلسطينية على الأصوات اللازمة لعرضه على التصويت، ذلك رغم تعديله لدرجة إفراغه من مضمونه.
وهو الأمر الذي اجبر قيادة المنظمة التحرير على الانضمام إلى عدد آخر من مواثيق ومعاهدات وبروتوكولات هيئة الأمم المتحدة، أهمها بروتوكول محكمة الجنايات الدولية.
هنا اتسمت ردود فعل حكومة الاحتلال بالهستيرية، حيث قررت، فضلاً عن تصعيد سياسة الاستيطان والتهويد والعدوان، تجميد تحويل عائدات السلطة الفلسطينية المالية المستحقة وفق "الملحق الاقتصادي" لـ"اتفاق أوسلو"، ما أدخل قيادة السلطة في حالة عجز حتى عن صرف رواتب موظفيها بمن فيهم أفراد أجهزتها الأمنية المنوط بها، وفقاً لالتزامات "اتفاق أوسلو"، التنسيق مع الأجهزة الأمنية للاحتلال. ما اضطر قيادة المنظمة إلى التلويح بوقف التنسيق الأمني، وبإعادة النظر في وظيفة السلطة، ودعوة المجلس المركزي إلى اجتماع للبحث في مجمل علاقات السلطة بإسرائيل كدولة احتلال، وفي ملفات داخلية، أهمها المصالحة الوطنية المعطلة وإعادة إعمار قطاع غزة المدمر. 
أما الإدارة الأميركية التي اكتفت بالتحذير غير المسنود بإجراءات عملية من انهيار السلطة الفلسطينية بسبب احتجاز أموالها، فقد حذرت المجلس المركزي عشية انعقاده من أن يتخذ قراراً بوقف التنسيق الأمني، معتبرة ذلك بمثابة "إلغاء للسلطة و"اتفاق أوسلو". ولمنع تفعيل هذا القرار بعد اتخاذه، اتفق وزير الخارجية الأميركي، كيري، مع الأخ الرئيس، أبو مازن، على لقائه في شرم الشيخ في 16 من الشهر الجاري بحضور وزير خارجية روسيا، لافروف، والرئيس المصري، السيسي، والملك الأردني، عبد الله.
بهذا تتضح عواقب التمديد الواقعي لتعاقد أوسلو السياسي بالتزاماته الأمنية والاقتصادية، وهي العواقب البادية في أن يصبح بمقدور حكومة الاحتلال والإدارة الأميركية الضغط على السلطة الفلسطينية ليس بهدف إلغائها، إنما بهدف إيصالها إلى حافة الانهيار لإجبارها على قبول مكانة سلطة وظيفية تنفذ من طرف واحد التزامات اتفاق أوسلو السياسية والأمنية والاقتصادية، وفق معادلة جائرة، جوهرها، استمرار (التفاوض لأجل التفاوض إلى ما لا نهاية)، ومواصلة (التنسيق الأمني بلا مقابل سياسي)، واستمرار (تحويل الأموال مقابل الأمن)، ما يعني شل قدرة السلطة ومنعها من الإقدام على أية خطوة سياسية أو دبلوماسية أو قانونية، فما بالك بالكفاحية، من شأنها أن تعزز فرص إنهاء الانقسام الفلسطيني واستعادة الوحدة السياسية الوطنية، وأن تقوي قدرة الشعب الفلسطيني على مجابهة تصاعد السياسة الإسرائيلية الهجومية الشاملة والمخططة لتقويض البرنامج الوطني الفلسطيني في العودة والدولة وتقرير المصير، كسياسة ترعاها الولايات المتحدة وتدعم شروطها التفاوضية التعجيزية التي لا يمكن القبول بها، لأنها تساوي إقرارا رسمياً عربياً وفلسطينيا بما حققه المشروع الصهيوني حتى الآن من وقائع على الأرض، وتحقيق المزيد من أهداف هذا المشروع وأطماعه وأحلامه، كما صاغها مؤسسوه الأوائل، وصولاً إلى تصفية القضية والحقوق والرواية الفلسطينية من جميع جوانبها.