بين الرؤية الإستراتيجية والفزعة

صلاح هنية.jpg
حجم الخط

بقلم: صلاح هنية

ثلاث مقابلات إعلامية لممثلين عن جمعية حماية المستهلك الفلسطيني، عن غلاء الأسعار والدعوة لحلول خلاقة، جعلت جهات الاختصاص الحكومية، بعد ساعة منها، إلى الإعلان عن إجراءات صغيرة تمثلت بتحويل مخالفين إلى نيابة الجرائم الاقتصادية، وقبلها اقتصر الحديث عن غلاء قادم، هناك مبالغة في الحديث عن الغلاء، وحديث رسمي عن تأثرنا بالاقتصاد العالمي والإسرائيلي.
نعلم علم اليقين أن صوت جمعية حماية المستهلك الفلسطيني مؤثر وله ثقل؛ لأننا مؤسسة قاعدية تمثل كل المستهلكين في فلسطين حتى لو لم ينتظموا في إطار الجمعية، ومنذ اليوم الأول تابعنا موضوع الغلاء على قاعدة أنه ليس جديداً وليس طارئاً، بل بدأ عملياً منذ شهر رمضان، ومن منا نسي انفلات الأسعار في رمضان لذات السلع التي نتحدث عنها اليوم، ولنعود معاً إلى بداية وباء "كورونا" وما رافقه من ارتفاع بأسعار السلع الأساسية والمعقمات والكمامات، وتدخلاتنا كجمعية لدى التجار والموردين وإنقاذ الموقف ليس بالكامل لأننا لسنا جهة تنفيذ قانون، فذهبنا باتجاه كشف أسماء كل المخالفين، وخاطبنا الموردين لوقف التوريد لهم لأنها إساءة للصنف المورد.
فقط قلنا: أين دور الحكومة في طرح حلول خلاقة؟ أين صوامع القمح التي وعدنا بها منذ ما يزيد على أربعة عشر عاماً؟ أين مخازن الوقود التي أعلن عنها والتي ستزود عبر أنبوب يأتي من ميناء حيفا إلى المخازن؟ أين استيراد السلع الأساسية بكميات كبرى (باخرة) ويتم تخزينها لتخفيف أثر الارتفاعات؟ أين الجمعيات التعاونية الاستهلاكية؟ أين القطاع الزراعي؟ أين العناقيد؟
بمجرد هذه الأسئلة، وهي لطالب متوسط القدرات وليست أسئلة معقدة لاختبار الذكاء، بات الاندفاع تجاهنا بعيداً عن معالجة الغلاء والتخفيف من آثاره، وفي كل مرة يحدث فيها غلاء تكون النتيجة دائماً (وهذه علامة للحكومات المتعاقبة) حملة فزعة ونفي وتأكيد أن جهوداً تبذل ليل نهار، ولكن المستهلك والتاجر والمصنع لا يرى هذه الجهود وكأنها تحدث في كوكب آخر!!!!
حتى المتاجر التي أعلنت تخفيضات على الأسعار بشكل مستمر بالنسبة للمواطن شكلت نافذة مهمة لتخفيف آثار الغلاء غير المبرر، لم يتم التعامل معها كنموذج ودفع باتجاه تخفيض الأسعار، أو حتى كشف حقيقة الأسعار أنها مصطنعة في بقية السوق.
دعونا نذهب صوب قوائم الأسعار الاسترشادية التي تصدر عادة في شهر رمضان والقدرة على الضبط من خلالها، سيكون التمرين عبارة عن دراسة التكلفة للسلع المستوردة التي ستشملها القائمة ووضع سعر استرشادي ليكون هو الأساس، تاريخياً لم يتم الضبط ضمن هذا الشكل من التدخل خصوصاً أسعار اللحوم والدواجن ومن ثم الأرز والزيوت النباتية والسكر، ولن يتم الضبط أصلاً.
لن يتغير الأمر إلا حين تعتبر الحكومة المواطن، وهو المستهلك، شريكاً إستراتيجياً يؤثر ويتأثر بالسياسات المالية والاقتصادية، ودون ذلك ستظل الجهود عبارة عن فزعة لمعالجة أسعار اللحوم الحمراء وحديث عن الكوتا وعن مربي الثروة الحيوانية، وفزعة أخرى لأسعار الزيوت والأرز والسكر، وفزعة أخرى للخضار والفواكه، لأننا لا نمتلك سياسة واضحة المعالم، ولا نرى أن هناك فقراً وبطالة وتعطلاً عن العمل وتراجعاً في الدخل ونعتمد على "ما في حد بيموت من الجوع".
لعل البعض لا يتابع حملات الخير القائمة في الوطن نتيجة للحاجة الماسة وتراجع القدرات، سواء من خلال حملات جمع ما يفيض عن حاجتك لصالح جهات أكثر حاجة، وطلبة جامعات لا تتوفر لآبائهم القدرة على تغطية أقساطهم، في ظل تراجع إمكانيات وزارة التنمية الاجتماعية عن تلبية احتياجات العائلات الفقيرة والأكثر فقراً، وتراجع قدرة الجمعيات الخيرية في تلبية هذه الاحتياجات وباتت تبحث عن دعم حكومي، وتخفيض الخدمات الإغاثية في وكالة الغوث الدولية، ترى أين يذهب كل هؤلاء أين يبحثون عن تلبية احتياجاتهم في ظل هذا الغلاء!!!
هذه الحكومة يجب أن تجمع على سياسة مالية واقتصادية أكثر قرباً من الفقراء ومحدودي الدخل، وأن تصبح الوزارات أدوات تنفيذية لهذه السياسات كل في مجالاته، ولا يجوز للوزارات أن تمارس نمط الفزعة بمعزل عن السياسات وبمعزل عن الرؤيا الإستراتيجية للحكومة.