حين يجلس المؤرخ، إذا جلس، لتقييم دور زعماء العالم في منع خطر داهم وكارثة محقّقة ومعروفة سلفا، فقد يسأل نفسه: ماذا فعلوا هناك في غلاسكو في أسكتلندا؟ وسيحاول أن يقرأ قمّة «كود 26» بوسم تبعاتها على أرض الواقع وبحكم مساهمتها في منع المصيبة البيئية المحدقة. أمّا الخطابات والتصريحات فسيرى أن بعضها كذب في كذب «من أساسه» وبعضها قد يكون له رصيد، لاحق بنظرنا، سابق بنظره. يقال «التاريخ لا يرحم» وعلى زعماء العالم أن يرحموا التاريخ حتى تكون فرصة للرحمة عليهم.
مهما قلنا عن قمّة غلاسكو، فإنّها، هي وما يدور حولها، تشكّل مساهمة جدّية في التوعية، وفي طرح قضية الانحباس الحراري على جدول أعمال كل الدول وكل المجتمعات، ولم يعد أي مسؤول، مهما كانت حقيقة موقفه، يستطيع تجاهل الموضوع أمام الجمهور. هذا إنجاز لا يستهان به، والأمل أن يؤدّي تحريك الرأي العام وتنبيهه إلى ضغط فعلي على الحكومات، وعلى الشركات العملاقة المسؤولة عن تهديد مستقبل البشرية كلّها. هذا الضغط مطلوب لجسر الهوّة الواسعة بين ضخامة الأقوال وشح الأفعال، بكل ما يتعلّق بمؤتمرات المناخ.
تنبّؤات مفزعة
يجمع العلماء (سوى بعض العلماء الشعبويين المرتزقة) على أن هناك ارتفاعا متواصلا بدرجة الحرارة على الأرض، وعلى أن هذا الارتفاع هو من صنع البشر وما يفعلون وما لا يفعلون، وفي الأساس على أنّه سيؤدّي حتما إلى كوارث بيئية، ستجعل الحياة على الأرض أصعب بكثير، إذا لم تتخذ تدابير طوارئ لإنقاذ البشرية، لا أقل. التنبّؤات العلمية مفزعة: فيضانات، حرائق، تدمير للبيئة الزراعية، تدهور في صحة البشر، أمراض جديدة، غرق جزر ومدن كبيرة، اختفاء أنواع كثيرة من الحيوان والنبات.. والقائمة طويلة، وأطول مما يحتمله عقل. لقد تأرجحت خطابات قادة دول العالم في مؤتمر غلاسكو، بين «الميل الطبيعي» نحو الظهور المسرحي، الموجّه إلى القاعدة الجماهيرية في دولهم، و»الميل القسري» الذي تفرضه الصور الكارثية، التي يحذر منها العلماء، والتي تستدعي من الجميع إبداء رأيهم عنها، وعن سبل منعها بمسؤولية يراقبها ويحكم عليها العالم كلّه. وإذ تستدعي مواجهة التغيير المناخي تعاونا دوليا وعلى كل المستويات، فإن الخطابات تعد بالعمل المشترك في غلاسكو، ثم يعود كل إلى بلده باحثا عن مصالحه الحصرية قصيرة المدى، مهملا المصلحة البشرية العامة طويلة الأمد.
الأصنام الأربعة
ليست أزمة البيئة نتاجا لنشاط بشري محدّد، بل هي محصلة حتمية لمجمل بنية وصيرورة حياة البشر في العصر الحديث، هي نتاج ما يؤمنون به وما يفعلون. وإذ يصعب التبسيط في طرح الأسباب وشرح التطورات، التي أوصلتنا إلى حافة الهاوية البيئية، فإنّه من الممكن التعميم فيها. وفي رأيي فإن أربعة صنميّات حملت وتحمل معها عوامل صناعة الكارثة:
أولا، تصنيم التكنولوجيا، والإيمان بأنّها ستحل كل المشاكل، وحمايتها من أي محاولة لضبطها والتحكّم بها، وتحويلها من وسيلة لخدمة البشر إلى هدف يسعون إليه، ويذلّلون العقبات في طريقه، وجعلهم يتغاضون عن الأضرار الرهيبة للانفلات التكنولوجي على الطبيعة وعلى الإنسان أيضا.
ثانيا، تصنيم الإنسان والمبالغة المشوَّهة والمشوِّهة في مركزيّة وجود ورفاهية البشر، مقابل بقية الكائنات وسائر مكوّنات الموجود. لقد تراجع في العصر الحديث، مبدأ الانسجام مع الطبيعة، وتقدمت فكرة اغتصاب الطبيعة، وإخضاعها بلا حدود وبلا ضوابط لرغبات البشر ونزواتهم واحتياجاتهم الوهمية قبل الحقيقية.
ثالثا تصنيم السلع والاستهلاك، وخلق حاجات مصطنعة، وإقناع الناس أن سعادتهم تكمن بما يقتنون، وإذا لم يصلوها فهم بحاجة المزيد. وكما في كل «صنمية» تتحوّل الوسيلة إلى هدف، ويقضي الإنسان حياته لاهثا خلف البضائع والسلع، وهو يريدها غير آبه بما يحدث من كوارث للطبيعة والحيوان وحتى للبشر من حوله. أمّا مقولة حرية الاختيار الليبرالية، فهي كذبة الحداثة الكبرى، فعصابة الإخوة الأعداء الرأسمالية، تمنح الإنسان حرية اختيار مثلا، في شراء سيارة «مرسيدس» أو «فيات» وبالتالي المساهمة في تخريب البيئة في إنتاجها وفي استعمالها. لقد صمّمت بيئة حياة البشر من قبل هذه العصابة ومن قبل النظام الذي يحميها، بحيث تكون السيارة الملوّثة «حاجة» لا يمكن الاستغناء عنها أو التفكير بغيرها.. وهكذا في كل ما هو ليس حيويا في حياة البشر.
رابعا، تصنيم الربح والمال، وهو الصنم الأضخم وكبير آلهة الرأسمالية، التي تقوم على مبدأ الربح أولا وأخيرا. وفي سبيل الربح كل شيء حلال في حلال، من التحايل على قوانين البيئة في الدول المتطوّرة، عبر تصدير التلويث إلى دول العالم الثالث، والإنتاج الرخيص للسلع فيها، إلى الارتفاع الحاد في الاستغلال الجائر للموارد الطبيعية، وإغراق الغلاف الجوّي بغازات الدفيئة، ومواصلة جني الأرباح الطائلة من صناعات التلويث ومقاومة محاولات ضبط تخريب البيئة، فإن مبدأ الربح الرأسمالي منفلت العقال يقود البشرية نحو الدمار.
لحماية أرباحها تقوم الشركات العملاقة في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، بتمويل حملات إنكار أزمة البيئة والتشكيك بها، وإذ تدفع هذه الشركات، بما هو مُعلن، حوالي مليار دولار سنويّا، إلى مؤسسات وجمعيات وطواقم تفكير وبحث، فإنّ هذه «لا تقصّر» ونجدها المسؤولة عن الغالبية الساحقة من مقالات وأبحاث ونشاطات الإنكار البيئي، ويطلع من كنفها بعض «العلماء» إلى وسائل الإعلام للحديث عن أن لا وجود لأزمة بيئية، وهم يتحدثون للجمهور الواسع مباشرة، ولا ينشرون أبحاثهم في مجلات علمية محكّمة. وفي كل المرات، التي جرى فحص هذه الأبحاث علميّا، تبيّن أنها ملفّقة وكاذبة. هؤلاء يشكّلون أقل من 3% من العلماء في العالم، لكن مجرد وجودهم وحضورهم في الإعلام الجماهيري، يسمح لمنكري الأزمة في الولايات المتحدة وغيرها بالادعاء بأن هناك «خلاف بين العلماء» بالضبط كما حدث سابقا مع شركات السجائر والتدخين، ومع منكري وباء كورونا ورافضي اللقاح.
كارثة الأسباب
وإذ تقع عوامل الكارثة البيئية الحالية والآتية في صلب النظام الاقتصادي والسياسي القائم، فإنّه من الصعب جدا تفكيكها كما هو لازم لحل أزمة البيئة، ونحن نجد أنفسنا هنا أمام كارثة الأسباب، التي لن تتغير جذريا إلا بانقلاب النظام الرأسمالي رأسا على عقب، وهذا ليس في الأفق. وقد يصل الأمر إلى التفكير بأن المشكلة ليست في النظام فحسب، بل في البشر أنفسهم وفي طبيعة الحضارة والنفس البشرية، وبما قد يقال عن إن الإنسان بطبيعته معادٍ للتنوّع البيئي، ومسؤول عن اختفاء أنواع كثيرة من الحيوانات، خاصة من الثدييات، وبما قد يقال أيضا عن أن الحضارة الإنسانية تطوّرت عبر التاريخ باتجاه «ضد الطبيعة». في الحقيقة تطرح الكارثة البيئية أمامنا أسئلة وجودية من الوزن الثقيل، لا يصح أن نرميها جانبا، حتى لو أردنا أن نكون عمليين ونتعامل مع الواقع الصعب ولا نهرب منه إلى الأمام.
القاتل الصامت يتحدّث
لم يعد نعت الاحتباس الحراري، الذي يهدد الحياة على الأرض، بأنّه «قاتل صامت» منصفا للحقيقة، فها هو العالم مشغول به ويتحدّث عنه، وهذا التطور الإيجابي الوحيد حتى الآن. وقد نشرت منظمة الصحة العالمية، عام 2017، أن عدد الوفيات نتيجة لارتفاع درجات الحرارة، وصل خلال عقدين إلى ما يقارب 170 ألفا، وتنبّأت بأن يتضاعف العدد حتى عام 2030. في الواقع تضاعف العدد منذ هذا الإعلان، إضافة إلى أن الأرقام غير المسجّلة أكبر من ذلك بكثير.
وعود لم تتحقّق
في الحقيقة هناك سؤال، كيف سنصدّق الوعود المنطلقة من غلاسكو؟ وسجل الدول التي تعد لا يدل على أي نوع من الجدّية. قبل سنوات جرى الاتفاق في مؤتمر «كوب 21» في باريس على بعض الأهداف:
أولا: تخفيض انبعاث غازات الدفيئة
ثانيا: زيادة جدّية في إنتاج الطاقة المتجدّدة
ثالثا: الحفاظ على السيطرة على ارتفاع الحرارة واتخاذ الخطوات اللازمة لمنع زيادتها عن درجة ونصف الدرجة.
رابعا: الالتزام بضخ 100 مليار دولار لمساعدة الدول الفقيرة في التعامل مع التغيير المناخي.
وماذا تنفّذ منها؟ لا شيء! وهذا يدفعنا إلى التشكيك في إمكانية تحويل الكلام إلى فعل جدّي.
وإذا وضعنا جانبا الخطاب الكاريكاتيري لرئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، الذي حاول تقليد أفلام «إنقاذ العالم» قائلا، إن إسرائيل صغيرة حجما لكنها قوة عظمى، بما فيها من عقول وتكنولوجيا، وقادرة بابتكاراتها في مجال البيئة على إنقاذ البشرية، فإننا سنجد أمامنا كارثة تقترب وعقارب ساعة لا تتوقّف عن الدوران، والحل لن يكون سحريا، بل بتعاون كل البشر. صحيح أن نقول اليوم «يا سكّان العالم اتحدوا» لإنقاذ العالم لأننا نريد أن نعيش.. لكن يجب أن لا يمنعنا ذلك عن مواصلة السعي للعدالة والحرية حتى يكون لعيشنا معنى.
* رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48 .