لم يترك السيد المسيح في حياته إرثاً مكتوباً، بل ترك تعاليمه ووصاياه فقط، ولكن بعد صلبه (أو رفعه)، ومع بشارة القدوم الثاني (القيامة) تحمس تلاميذه للتبشير بتعاليمه.. وفي البداية، نظر الرومان للمسيحية بوصفها طائفة يهودية مهرطقة، وأن المسألة شأن يهودي محلي، فلم يضطهدوا المسيحيين الأوائل، لكنهم اضطهدوهم بعد ذلك، خاصة مع انتشار المسيحية كديانة مستقلة، والنظر إلى هذا الدين الجديد على أنه تهديد.
كان مجمع أورشليم (50 م)، أول مجمع كنسي مسيحي، وقد تقرر فيه عدم إلزام الأمميين من غير اليهود المتحولين إلى المسيحية بالمحافظة على شريعة موسى، وكان الاعتقاد الشائع لدى المجتمعين أن المسيحية خاصة، بمن هم من أصل يهودي، أي بوصف المسيحية ديانة محلية.. بيد أن بولس الرسول عمل على نشر المسيحية على مستوى عالمي، ودعا كل الأمم لاعتناقها، وبناء على ذلك أسس ما عرف بكنيسة الأمم.
وبدءاً من العقد السابع للقرن الأول سيبدأ تلاميذ المسيح بكتابة الأناجيل الأربعة (القانونية) باللغة اليونانية، كان أولها إنجيل مرقص، ثم متّى، ولوقا، وأخيراً يوحنا.. وطبعاً إلى جانب رسائل بولس، والتي صارت عماد المسيحية.
ومع الوقت وخلال أربعة قرون فقط انتشرت المسيحية، وصارت الديانة المهيمنة على حوض البحر المتوسط. وغدت من أهم الأحداث التي هزت كيان الإمبراطورية الرومانية، وهددت وجودها واستقرارها، ثم صارت عامل توحيد لها، ففي الوقت الذي تعرضت فيه الإمبراطورية للانحلال البطيء، تسلل في خفة ورِقّة إلى أذهان الناس دين نقي متواضع، ونما في صمت وخفاء، حتى رفع الصليب فوق أطلال الكابتول، وبعد اعتناق قسطنطين (272-337 م) للمسيحية، تغلغلت في القارة الأوروبية، وانتقلت إلى آسيا وأفريقيا. واليوم تعتبر أكبر ديانة في العالم، يدين بها أكثر من ربع سكان الأرض.
يعتبر القديس بولس (10-67 م) أحد أبرز الشخصيات المسيحية الأولى، ظهر أولاً على مسرح التاريخ بوصفه مضطهداً للمسيحيين، ثم صار رمزاً في تاريخ الدعوة المسيحية وحاملاً للوائها؛ فقد أسس العديد من الكنائس وأسهم في اتساع المسيحية وامتدادها إلى العالم الغربي.. ومن أهم ما فعله بولس تكريس عقيدة الثالوث المقدس، والقول بربوبية يسوع، والترويج لفكرة أن الخلاص يأتي عبر الإيمان بيسوع «المسيا»، وليس عبر الالتزام بشريعة موسى (كما تقول اليهودية)، وبذلك هو فعلياً من حرر المسيحية من اليهودية.
ومنذ وقت مبكر من نشأة المسيحية بدأت الخلافات تظهر بين المسيحيين أنفسهم، والتي تركزت على مفهوم طبيعة المسيح (اللاهوتية والناسوتية)، والخلاف على الثالوث المقدس، وعلى مفهوم الخلاص «المسيا»، والفداء.
وطوال القرون الأربعة الأولى من عمر المسيحية كان جميع المسيحيين في العالم يطلقون على أنفسهم أرثوذكس، وتعني لغويا الطريق الصحيح، أو الإيمان السليم، وكانت الكنيسة تسمي نفسها الكنيسة الجامعة لكل المؤمنين، أي الكاثوليكية، ولم تكن تلك التسميات تدل على أي فرق بين المسيحيين، أو على انشقاق مذهبي فيما بينهم.
في هذه الأثناء ظهرت العديد من الفرق والتيارات التي اعتبرتها الكنيسة «مهرطقة»، مثل الأبيونية والغنوصية، والأريوسية، وهذه الأخيرة كادت (لولا مجمع نيقية 325 م) أن تصبح الطائفة الرسمية لعموم المسيحيين. فقد أخفق مجمع نيقية في توحيد كلمة المسيحيين، أو القضاء على الأريوسيين، بل إنه افتتح موجة جديدة من المجامع المسكونية، التي بدورها ولدت مزيداً من الانشقاقات، حيث ظهر النساطرة واليعاقبة وغيرهم.
وفي مجمع خلقدونيا (451 م)، انشقت الكنيسة إلى شرقية أطلقت على نفسها اسم الأرثوذوكسية ومرجعيتها القسطنطينية، وإلى غربية أطلقت على نفسها الكاثوليكية ومرجعيتها روما. وفي القرن السادس عشر دعا مارتن لوثر لثورة إصلاحية احتجاجاً على الكنيسة الكاثوليكية في روما، ما أدى إلى نشوب موجة من الحروب الدينية ونشوء البروتستانتية (تعني كلمة بروتستانتي الاحتجاج) في ألمانيا بداية، ثم انتقالها إلى بريطانيا وأميركا.
أخفقت المجامع المسكونية لأنَّ شبح السلطة السياسية (الرومانية، وغيرها) كان دوماً في خلفية المسرح، وكان لاعباً أساسياً، ولأن ذهنية التكفير والحرمان كانت هي السائدة، ولأن الحوار كان يفتقد لأهم شروطه: قبول الآخر، وعدم الادعاء باحتكار الحقيقة، ولأن الكنيسة كانت تسعى لاحتكار السلطتين الروحية والدنيوية.
ومما يؤسف له أن هذه الانشقاقات والهرطقات والمحاكم قد جلبت معها الويلات والآلام للمسيحيين قبل غيرهم، فلطالما ترافق معها أحكام الحرمان والنفي، والاضطهاد، والتعذيب، فضلاً عن الاقتتال الداخلي والحروب الدينية، بكل ما تجره وراءها من خراب ودمار، ومن خسائر فادحة للإنسانية جمعاء.. حيث قُتل من المسيحيين على يد إخوتهم المسيحيين (بعد فترة المجامع المسكونية) ما فاق من قُتلوا طوال فترة الاضطهاد الروماني.. بل إنه في موجة الحروب الدينية التي أعقبت ثورة لوثر الإصلاحية قتل ملايين المسيحيين بسبب التعصب المذهبي.
اليوم، ولحسن الحظ، بل ومنذ وقت ليس بالقصير توقفت الحروب الدينية، وهذا لم يحدث بسبب الصدفة السعيدة، والنوايا الطيبة، بل لأن التجربة المسيحية تطورت ونضجت، وتعلمت من دروس التاريخ الكثير، وقد أيقن المسيحيون في ربوع الأرض أن التعصب المذهبي لا يجر إلا الخراب والحروب، وأن التسامح والتعددية وقبول الآخر هو السلوك الإنساني الصحيح، بل هو جوهر رسالة المسيح.. وهذا يعني أن تطور الأديان هو جزء أساسي من تطور المجتمعات الإنسانية، وهو الذي يمكّنها من المضي قدماً نحو المستقبل.
بفضل هذا التطور والنضوج، لم تعد هناك حملات صليبية، ولا حروب دينية داخلية، ولم نعد نسمع عن صكوك غفران، ولا عن مجمع مسكوني يقرر حرمان مفكر، أو كنيسة تعدم مبدعاً.. تطور الفكر المسيحي بعد أن تخلص من كنيسة العصور الوسطى، ومن هيمنتها الاستبدادية على الناس، ومن فكرها المتزمت.
اليوم، ومنذ وقت ليس بالقصير نرى المسيحيين من كل الطوائف يعيشون معاً بسلام وطمأنينة، كما يتعايشون مع إخوتهم المسلمين، ومع كل المؤمنين من كافة الأديان، بل مع البشرية جمعاء.. وعلى أمل التخلص من بقايا اليمين المتطرف، ومن أدران العنصرية «البيضاء»، ومن أفكار المسيحية الصهيونية الخرافية.
وما نرجوه أن نتعلم من التجربة المسيحية في نبذها الكراهية والتعصب والعنف، وأن تسود أجواء التعايش والمحبة بين عموم البشر، وأن تنعم الأرض بالسلام. فهذه روح المسيحية الحقة، كما هي روح الإسلام، وهي رسالة جميع الأنبياء والرسل.