ظاهرة العنف ضد المرأة في جوهر المشكلات، التي تعاني منها المرأة الفلسطينية بشكل عام، وهي ظاهرة تتخطى الفواصل الجغرافية والاقتصادية والطبقية والثقافية، لتوحد النساء الفلسطينيات في مواجهة الثقافة الأبوية السائدة، المتوارثة جيلاً بعد آخر.
إن الوقائع المعيشة، لم تزل تؤكد – يوماً بعد آخر – أن حالات العنف ، التي تعيشها النساء الفلسطينيات، لا تقتصر على فئة أو طبقة بعينها، لكنها تنتشر في جميع الأوساط الاجتماعية على اختلاف تنوعاتها الثقافية والاقتصادية ، كما أنها تأخذ وجوهاً وأبعادا متعددة، تنبني في جوهرها العميق على نمط توزيع الأدوار الاجتماعية بين المرأة والرجل، ثم جاءت القوانين الوضعية، لتكرس هذه الرؤية وهذا الوضع ، ما جعلها – في كثير من الأحيان – تقف عاجزة عن تخطيه، خاصة في ظل الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني – سابقاً وحالياً – وهو الأمر نفسه الذي عطّل الكثير من الجهود التشريعية والأهلية، وحال دون تبني منهجية عمل واضحة، محددة المعايير، لمواجهة تفشي الظاهرة ، على الرغم من الجهود المتعددة التي بذلتها المؤسسات النسوية والحقوقية والأهلية بشكل عام في محاولة منها للتخفيف من حدة العنف المبني على أساس الجنس. فحتى الآن لم تزل النساء الفلسطينيات يعانين من العنف الممارس ضدهن في إطار العائلة وخارجها، فيما لم تزل الأطر التشريعية والمؤسسية عاجزة عن توفير الحماية القانونية للنساء المعنفات، خاصة النساء المعنفات داخل إطار العائلة، رغم تنامي عدد الشكاوى المقدمة من النساء للمؤسسات النسوية والحقوقية، لكن ذلك كله لم يبلور رؤية لبناء إستراتيجية وطنية لمواجهة العنف ضد النساء في قطاع غزة والضفة الغربية، وبقيت الجهود المبذولة في هذا المجال – في أغلبها – تتسم بالفردية وغلبة المنظور الخاص لهذه المؤسسة أو تلك للتعاطي مع قضية العنف ضد المرأة وهو أمر –ربما – قلل من فعالية الجهود التي بذلت لمحاربة العنف، وما نقرؤه من تزايد إحصاءات العنف قد يكون مؤشراً دالاً في كلا الجانبين سلباً وإيجاباً-
حول الأبعاد الاجتماعية للعنف ضد المرأة:
ليس خفياً على أحد أن مجتمعنا الفلسطيني، هو مجتمع أبوّي، يحتفي بقيمّ الذكورة، ويعلي من شأن الفرد/ المواطن الذكر على حساب الأنثى، وهو احتفاء يرافق ويتجلى في مناحي الحياة كافة منذ لحظة الميلاد إلى لحظة الموت، في البيت وفي الشارع وفي العمل وقد عززّ هذا الاحتفاء التمييزي من حجم ونوعية الفروقات في التمتع بالحقوق والامتيازات بين كلا الجنسين. هذا التمييز في الحقوق والمكاسب قاد إلى جملة من الممارسات الضارة والمهينة الرسمية والشعبية، التي أصبحت بمرور الوقت عرفاً سائداً ، متسيّداً على ماعداه من قوانين وتشريعات، لذا سنجد أن مسألة ضرب الزوجات لها ما يبررها في الثقافة الشعبية السائدة، وكذلك الأمر بالنسبة لجرائم الشرف، رغم الفارق بين مآل المسألتين، لكنهما في حقيقة الأمر يتأسسان على المبدأ نفسه: التبرير والقبول المجتمعيين. وهما أداتان فاعلتان، يستخدمهما الجاني بذكاء قاتل – أو قد يفضي إلى القتل - في أحسن حالات العنف0
إن الثقافة، كمبرر شعبي ورسمي ،لانتهاك حقوق المرأة، وممارسة العنف ضدها، لم تحظ بالعناية الكافية من حيث القراءة المتأنية للموروث الشعبي، والاتكاء على الجميل فيه بدلاً من إقصائه، لصالح السائد والمطروق من طرقنا (التقليدية) في تناول – ليس فقط – العنف ضد المرأة ولكن في مجمل قضايا المرأة والمجتمع-
إن الوعي بالعنف ، ليس كافياً لتجاوزه، لكنه بحاجة دائماً إلى ميكانيزمات الفعالية والإرادة، على مستوى الفرد/ الجماعة، المواطن - ـــة/ الموَاطنة، وأخيراً على مستوى المرأة / النساء، أمّا أن نقول كلاماً مكروراً وفعلاً مفعولاً ، دون أن ننتبه إلى أننا تقف في المكان ذاته وبالقليل الأقل من حصاد الحياة، فليس أمراً بالهيّن.
من المؤكد، أنه – يومياً – تنضاف تحدّيات جديدة لقضية العنف ضد المرأة، ما يتطلب منا وعياً جديداً ذي حساسية نسوية ومجتمعية، قادر على خلق حراك ثقافي/ اجتماعي، وهذا يتطلب نفض العنف من جذوره، إعادة إحيائه من متحف الأروقة المغلقة، ومن معمعة روتين العمل الأهلي الوظيفي 0
إن قراءة العنف ضد المرأة –اليوم-، تتطلب منا رؤية جديدة تنطوي على هدم الكثير من الأبنية وبناء أخرى جديدة تنتصر لقيم العصر وتراعي فعلياً خصوصية الواقع الذي نعيشه دون إغفال للمتغيرات والتحولات التي لحقت بالقضية النسوية برمتها في تشابكها الجدلي مع القضية الوطنية والبعد المجتمعي0
لن نأتي بجديد حين نذكر أنّ الثقافة الذكورية المهيمنة في المجتمع الفلسطيني تمثّل عائقاً وتحدّياً كبيراً أمام أي جهد من الممكن بذله لتغيير الصورة النمطية السائدة عن طبيعة العلاقات السائدة ومن ثم الأدوار المجتمعية بين كلا الجنسين، يضاف إلى ذلك شيوع الاحتكام إلى العاطفة واستخدامها كمبرر لممارسة العنف ضد النساء، خاصة العنف الأسري ، الذي لم يزل يعد وسيلة مقبولة في عملية التنشئة الاجتماعية والعلاقات الزوجية.
حول الأبعاد القانونية لظاهرة العنف ضد المرأة:
في أغلب الأحوال ، لا يدل غياب التشريع على غياب القانون، فهناك دائماً قانون ما، تسري فعاليته بشكل أو بآخر، وفي حالة العنف الممارس ضد النساء فإن القانون الوضعي ، ليس هو سيد الأدلة، لذا فهو لا يشكّل رادعاً للجناة، كما لا يشكّل حماية للضحايا من النساء.
حين تضع ثقافة أبوية تشريعها، فمن المؤكد أنه لن يكون ضدها ، لذا فإنّ أية محاولة لاختراق هذا التابو ستواجه بحزم يبدأ من الإصرار على مواصلة العمل بقوانين بائدة، ثم تعطيل والمماطلة في إصدار قوانين ذات صلة مباشرة بالعنف ضد المرأة مثل مسودة قانون الأحوال الشخصية وقانون العقوبات، وأخيراً مواجهة كل من تخوّل له أو لها نفسه الاعتراض على ما هو قائم. صحيح أن ثمة نجاحات هنا أو هناك،وصحيح أيضاً أن هذه القضية من العيار الثقيل، تتطلب نضالاً طويلاً ، قد لا نرى ثماره إلاّ في أجيال لاحقة، لكن التغيير في بنية إصدارا لتشريعات عموماً وفي تلك ذات الصلة المباشرة بالعنف والتأكيد على نوعية المشرعين/ات من حيث تشّرب المفاهيم الجندرية واستدراك الجانب المستقبلي من هذه القوانين، من الأمور المهمة لاستعادة هيبة القانون في ذوات الجناة، واستعادة الثقة في وجود حماية قانونية للنساء المعنفات.
لاشك أن المعوقات القانونية أمام قضية العنف ضد المرأة، كبيرة ومعقدة، تتطلب الكثير من الجهد لتجاوزها، فهي أولاً تحتاج إلى نظام سياسي مستقر، وأيضاً نظام قضائي مستقر،ووحدة قانونية بين الضفة والقطاع، ثم تتطلب حامل اجتماعي وثقافي قادر على إشاعته وترويجه وحمايته. كما أن القوانين التي تضمنت نصوصاً عن أحد أو بعض أشكال العنف الممارس ضد النساء لا تتمتع بالفعالية الكافية من حيث الإنفاذ والتطبيق،حتى وهي تنطوي على مبدأ التمييز في الكثير من القضايا كما في قانوني العقوبات والأحوال الشخصية وهما من أكثر القوانين التي تعرضت للانتقاد والتحريض ضدها على المستوى الشعبي والديني.
ويمكن هنا إبداء عدد من الملاحظات المتعلقة بالجانب القانوني من ظاهرة العنف ضد المرأة في المجتمع الفلسطيني، وهي:
1- اختلاف البيئة التشريعية بين كل من الضفة والقطاع رغم مرور سنوات على دخول السلطة الوطنية أراضي الوطن، فلم تزل القوانين الأردنية تسري في الضفة ، فيما تسري القوانين المصرية وقوانين الانتداب العثماني في قطاع غزة وهذا من شأنه أن ينعكس سلباً على الجهود التي يمكن بذلها لمحاربة الظاهرة ؛
2- على الرغم من أن غياب قانون موحد للضفة والقطاع ، يمثل معضلة حقيقية، غير أن غياب أدوات ومؤسسات إنفاذ القانون عن ممارسة دورها في منع العنف ومساندة الضحايا من النساء؛
3- لا يشكل كل من قانوني العقوبات الأردني المطبق في الضفة والمصري المطبق في قطاع غزة، حماية فعلية للنساء من العنف الممارس ضدهن، إذ لا يتضمنان عقوبات كافية لمن يرتكب العنف، بل على العكس من ذلك يتضمنان مواداً تشجع الرجال مرتكبي العنف على تكراره والإفلات من العقاب؛
4- لم تزل المواثيق والاتفاقات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والمرأة غير مكفولة على المستوى الوطني وتنحصر العلاقة بها في إطار تحفيز الوعي النخبوي والجدل المعرفي، فيما تبتعد الوقائع على الأرض من إمكانية تحويلها إلى منتج محلي معترف به ومقبول
5- أدى الانقسام السياسي بين شطري الوطن إلى بروز إشكاليات تتعلق بتشريع القوانين في المجلس التشريعي وإعادة النظر في قوانين مستقرة ومصادق عليها ، من شأنها أن تزيد من وتيرة العنف بدل أن تكون عامل تخفيف؛
6- يجب البحث عن آليات مناسبة وفعّالة قانونياً للحد من عمليات قتل النساء على خلفية الشرف وتطبيق العقاب على الجناة الفعليين، باعتبارهم مجرمون دون أدنى مراعاة.
حول الأبعاد الدينية للعنف ضد المرأة:
تدين فلسطين بالديانات السماوية الثلاث، لكن القوانين الوضعية فيها تعتمد على الشريعة الإسلامية كأحد مصادر التشريع، فيما تندر المعلومات المتداولة حول الديانتين الأخريين فيما يخص الكثير من قضايا المرأة والأسرة ومن بينها قضية العنف ضد المرأة وهي قضية تجد لها تبريراً دينياً لدى المؤسسة الدينية الرسمية وتعاطفاً شعبياً مغلوطاً مستمداً من الخطاب الديني السائد في المساجد وفي بعض المنابر المؤسسية الدينية الأخرى.
إن علاقة المؤسسة الدينية مع قضايا المرأة هي علاقة عداء مفتعل، ساهم فيه غياب الفهم الصحيح للدين وشيوع أنماط من التعليم والثقافة غير الرسميتين غير الخاضعتين لرؤية وسيطرة الدولة ما أعطى فرصة لكل ذي مصلحة- وهم كثر - ، خاصة من المنتفعين دينياً إلى تمرير الكثير من المعلومات الخاطئة والمفاهيم المغلوطة المتعلقة بحقوق المرأة، وقد وجدت هذه المعلومات والمفاهيم أرضاً خصبة للانتشار في ظل تدني الأوضاع الاقتصادية وشيوع الفقر والبطالة وغياب كل من الاستقرار والشعور بالأمان ما أدى إلى سيادة الغيبية على حساب العقل والمنطق واحتياجات الحياة، وهذه أمور تشجع على رواج العنف المجتمعي والأسري وعادة ما تكون النساء هن أكثر الضحايا.