الأمن الغذائي، ومشكلة الجوع (2 من 2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

نحن أمام مشكلة حقيقية وخطيرة اسمها الجوع تسبّب موت الملايين سنوياً، وسببها باختصار يكمن في غياب العدالة في توزيع الموارد الغذائية. ولتوضيح ذلك أكثر يمكن اعتبار النقاط التالية أسباباً جوهرية:
أولاً: تفرض الدول الصناعية على الدول الزراعية التخصص في إنتاج نوع واحد أو بضعة أنواع من الزراعات الصناعية التي تُصدّر حصراً إلى الدول الصناعية لتلبية حاجات اقتصاداتها، وتستورد الدول الزراعية في المقابل حاجاتها من المواد الغذائية من هذه الدول الصناعية، وهذا الوضع يتيح للدول الصناعية التحكّم بأسعار الصادرات والواردات بحيث تكون محصّلة التبادل التجاري لصالح الدول الصناعية. (أنظر مثال غينيا – بلجيكا والذي تناولته في مقال سابق).
ثانياً: تخصّص الدول الزراعية أفضل أراضيها وأكثرها خصوبة لزراعة أصناف محددة (للتصدير)، على حساب المواد الغذائية التي تحتاجها، وضمن ممارسات زراعية بدائية تقليدية، ما يجعل إنتاجيتها متدنية.
ثالثاً: إتباع السياسات النيوليبرالية في الدول الصناعية وفرضها على الدول النامية، وهذه السياسات يجري تطبيقها منذ السبعينيات (تحرير التجارة، انفلات حركة رؤوس الأموال عبر الحدود، إعفاءات وامتيازات للطبقة الثرية، تجاوز كل الضوابط والقيود الخاصة بحماية المستهلك والبيئة، خصخصة الخدمات العامة)، والتي بدورها فاقمت معضلة الديون الخارجية لبلدان الجنوب.
رابعاً: أدّى إتباع النموذج الزراعي الذي يخدم منطق النيوليبرالية، والسياسات "التنموية" الاقتصادية التي تقودها دول الشمال (إعادة هيكلة الاقتصاد، اتفاقيات التجارة الحرة الإقليمية، سياسات منظّمة التجارة العالمية) إلى تدمير الأنظمة الغذائية. فمثلاً في الستينيات والسبعينيات، روجت بعض المؤسسات الدولية ومراكز الأبحاث الزراعية إلى ما تسمّى "الثورة الخضراء" بهدف نظري يتمثّل في تحديث الزراعة في البلدان النامية. فكانت النتائج المبكّرة جيدة من ناحية الإنتاج للهكتار الواحد. ولكن هذه الزيادة في المحصول لم يكن لها تأثير مباشر في الحد من الجوع في العالم، لأنها لم تغيّر من تركّز السلطة الاقتصادية في يد النخب المتحكمة، أو من إمكانية استثمار الأراضي بشكل صحيح، أو من تحسين القوّة الشرائية، أو بإعادة توزيع الموارد على نحو عادل، بل ترتّبت عليها آثار سلبية على الفلاحين الفقراء والمتوسطين، وعلى الأمن الغذائي. فقد زادت هذه الثورة من قوّة الشركات الرأسمالية، وأضرت بالتنوّع الزراعي والبيولوجي، وحتى بالبيئة، ودفعت الفلاحين للهجرة من الريف إلى الضواحي الفقيرة للمدن، وخلقت أحزمة البؤس.
خامساً: فرضت سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على الدول النامية تطبيق برامج التقويم الهيكلي بهدف تسديد الديون الخارجية، وفرضت عليها وقف دعم السلع الأساسية، وخفض الإنفاق العام على التعليم والصحة والإسكان والزراعة، وخفض قيمة العملة الوطنية لجعل المنتجات أرخص للتصدير، وزيادة أسعار الفائدة من أجل جذب رأس المال الأجنبي، وتفكيك الحواجز الجمركية، وتسهيل دخول المنتجات الأجنبية والتي تباع بأقل من سعر المنتجات المحلية، وفتح أبواب الاقتصاد بالكامل أمام استثمارات الشركات العابرة للقارات ومنتجاتها وخدماتها، مع استمرار عمليات الخصخصة. وكانت النتيجة تدمير الإنتاج والزراعة المحليين، وإفقار شعوب هذه البلدان، والحد من قدراتهم الشرائية، وتفاقم الأوضاع المعيشية، الصعبة أصلاً، وخضوع هذه البلدان تحت رحمة السوق العالمي ومصالح الشركات العابرة للقارات والمؤسسات الدولية، وفرض مزيد من سيطرة بلدان الشمال على بلدان الجنوب.
قضت هذه السياسات "التنموية"، التي تقودها المؤسّسات الدولية لخدمة الشركات العالمية، وبمباركة من الحكومات الفاسدة على نظام الإنتاج المحلي المستديم، واستبدلته بنموذج إنتاج غذائي خاضع للمصالح الرأسمالية التي أدّت إلى الأزمة الراهنة وانعدام الأمن الغذائي. فأصبحت بلدان الجنوب، التي كانت مكتفية ذاتياً تعتمد كلياً على السوق العالمية، وتستورد غذاءها من الخارج.
سادساً: الدور الذي تضطلع به الشركات العابرة للقارات في الاقتصاد العالمي، وفي اقتصادات البلدان النامية تحديداً. فهذه الشركات فرضت نفسها كلاعب رئيس في أسواق المواد الغذائية إنتاجاً وتسويقاً، حيث تمارس احتكار المواد الغذائية وتستخدمها كسلعة للمضاربة في أسواق أخضعت كل شيء للتسليع ولمنطق الربح: الأرض والمياه والغذاء والدواء. فشركة "كارغيل" الأميركية، مثلاً، التي تصل مبيعاتها إلى 71 مليار دولار، تسيطر على 45 % من تجارة الحبوب في العالم.
تحتكر هذه الشركات العابرة للقوميات أهم مدخلات العملية الإنتاجية؛ فهي تتحكّم بإنتاج البذور والأسمدة والمبيدات وتسويقها، وتسيطر على شبكة توزيع ومبيعات المواد الغذائية على النطاق العالمي.
ولو أخذنا البذور مثالاً، سنجد أن عشر شركات (أهمها "مونسانتو" سيئة السمعة) تتحكّم بأكثر من نصف مبيعات البذور، بقيمة 21 مليار دولار سنوياً، وهو قطاع صغير نسبياً بالمقارنة مع سوق المبيدات والأسمدة ومستلزمات الزراعة الحديثة. وتدعمها في ذلك قوانين الملكية الفكرية التي تعطي حقوقاً حصرية للشركات على البذور.
وهذه الشركات لا تعمل على احتكار سوق المواد الغذائية في العالم فحسب، بل وتحدّد أسعارها من دون ارتباط بقانون العرض والطلب، فالغذاء يُنتج ليس من أجل إطعام الناس، بل من أجل جني الأرباح. ولهذه الغاية تُحدد الأسعار، بحيث تصبح المواد الغذائية الأساسية بعيدة عن متناول أعداد متزايدة من الناس، وليس في البلدان النامية وحدها، إذ إن المشكلة تكمن ليس في نقص الغذاء، وإنما في العجز عن الوصول إليه. فارتفاع أسعار المواد الغذائية، وبنسب مفتعلة ومبالغ فيها نتيجة سياسات تلك الشركات، هو أحد أسباب تفاقم المشكلة الغذائية في العالم.
وتسيطر الشركات العالمية على مساحات شاسعة من الأراضي في الأرياف بالبلدان النامية، سواء من خلال شرائها أو استئجارها لسنوات طويلة بمبالغ رمزية، أو من خلال الدخول كشريك مع جهات داخلية غالباً ما تكون قريبة من مراكز القرار في السلطة. فتكسر هذه الشركات بنشاطها، نمط الإنتاج الزراعي التقليدي المتوارث في هذا البلد، وتعيد توجيه الزراعة فيه باتجاه زراعات عصرية (تصنيعية أو ترفيهية) موجّهة نحو التصدير، حارمةً السكان المحليين من زراعاتهم التي تؤمّن حاجاتهم الغذائية الضرورية، مع ما ينطوي عليه ذلك من تهديد للأمن الغذائي.
سابعاً: تزايد الاستثمار المضارب في المواد الغذائية، كبديل عن سوق الرهن العقاري عالي المخاطر، حيث سعت المؤسسات الاستثمارية (البنوك وشركات التأمين وصناديق الاستثمار والشركات الكبرى) للمضاربة في بورصات المنتجات الغذائية، وبالتالي صارت أسعار المواد الغذائية تحت رحمة هؤلاء المضاربين.