ثمّة من يدأب في دولة الاحتلال على تكرار مقاربةٍ في ذكرى الهولوكوست كل عام، ليس من المبالغة توصيفها بأنها مسبقة البرمجة والأدلجة، وهي مقاربة تقوم على ركنين أساسيين متصلين مبنى ومعنى.
الركن الأول، أنه لا ينبغي أن يعلو صوت على صوت ضحايا المحرقة النازية، وأن صوت هؤلاء قد حسم الأمر، مرّة واحدة وأخيرة، إلى ناحية صيرورة عدم الغفران وعدم النسيان. ولاحظنا تواتر حضور هذا الركن في الأيام الأخيرة التي أحيت فيها إسرائيل ذكرى الهولوكوست، وبصورة مباشرة على خلفية مواقف بدَرت عن رئيس الكنيست، ميكي ليفي، في أثناء إلقائه خطابا في المناسبة أمام البرلمان الألماني، ذكر في سياقه، من ضمن أمور أخرى، أنه “عبر فترة 80 عامًا ونيّف نجحنا، نحن الشعبان، في أن ننهض من الصدمة الوطنية التاريخية، وأن نبني نفسينا مجددًا بشجاعة وعزم”، وهو ما استنتج منه بعضهم أنه ينطوي على منح صكّ غفران إلى ألمانيا، من شأنه أن يتسبّب بتدوير كل الزوايا الحادّة الماضية. وانصب أغلب الغضب على ليفي بسبب جملته التالية: “من واجبنا الحفاظ على الذكرى، وضمان ديمومتها إلى الأبد من أجل البشرية. ولكن إلى جانب الذكرى علينا أن نبني منها رؤية، أن نبعث الأمل ونخطط معًا المستقبل، المستقبل الذي يستند إلى القيم والأحلام المشتركة”، فقد اعتبر الروائي الإسرائيلي، أرنون إيتيئيل، هذه الجملة دعوة صريحة إلى إغلاق ملف الهولوكوست الذي ينبغي أن يبقى مفتوحًا، ولو من أجل استخدامه أداتيًا، كما تفعل إسرائيل منذ إقامتها. ومما كتبه: ليس من واجبي أن أهدئ من روع الأجيال الإسرائيلية المقبلة، فهي ليست في حاجة إلى أن تغلق الدائرة، بل إلى استمرارها مفتوحةً، وإلى اكتناز مزيد من الغضب، وعدم النسيان بتاتًا أن المكان الذي ألقى فيه رئيس الكنيست خطابه كان في الأمس حلبة الشيطان، وأن آباء الذي أنصتوا الآن إلى الخطاب كانوا عبدته.
الركن الثاني، شحن الإسرائيليين بـ”خوف دائم” من الإبادة ومن محرقة مستمرّة. وهو صار إلى رسوخ أكثر فأكثر إبّان رئاسة بنيامين نتنياهو الحكومة الإسرائيلية بين الأعوام 2009- 2021، حيث جرى الاهتمام بتربية الإسرائيليين على العيش في خوف وجودي دائم في جيل مُبكّر وأساسًا في المدرسة. وعلى سبيل المثال، نشرت باحثة إسرائيلية في موضوع “التربية والمحرقة” أنه عشية يوم ذكرى الهولوكوست عام 2015 أحضر ابنها، وهو طالب في الصف الخامس الابتدائي، بلاغًا من معلمته تطلب منه أن يرتدي ثوبًا أسود، وتعلن أنه خلال المراسم التي ستقيمها المدرسة في ذلك اليوم سيتم إلصاق رقعة قماش صفراء مكتوب عليها “يهودي” كالتي كان يضعها النازيون على اليهود، على صدر كل تلميذ. وبرأي الباحثة، عندما تضع معلمة رقعة قماش صفراء على أثواب تلامذتها في يوم الذكرى، فإنها تستخدم رمزًا نازيًا على نحوٍ مرعب. وبدلًا من عرض تلك الرقعة خلال أحد الدروس في الصف، وشرح جوهرها وتبعاتها، فإنها تفرض على التلامذة أن يمرّوا في تجربةٍ مخيفة وغير تربوية. وعندما تفعل ذلك في ذكرى المحرقة، هي عمليًا تهمس في آذان النشء الجديد بما معناه: في الواقع، ما زلنا في خضم المحرقة، والقتل الجماعي لليهود في أوروبا لم ينتهِ في النصف الأول من القرن العشرين، ولم يحدث لذوي أجدادكم وجداتكم فقط، بل ما زالت المحرقة موجودة هنا والآن.
بكلمات أخرى، تسعى المقاربة الإسرائيلية من جهة إلى أن يكون الهولوكوست حاضرًا مستمرًا لا مُجرّد ذكرى. ومن جهة أخرى، تسعى إلى تربية الأجيال الإسرائيلية المتعاقبة على أن كونها يهودية لا يعني الانتماء إلى “شعب مختار” فحسب، إنما أيضًا إلى شعب مبليّ بالملاحقة والتحقير والقمع، ما يتسبب، في الوقت نفسه، ببلادة المشاعر حيال ملاحقة مجموعات أخرى وقمعها، سواء في الماضي أو في الحاضر.
عن “العربي الجديد”