الخيالُ، إذا تعسكر..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

ما زالنا في موضوع "أصحاب ولا أعز". في مصر حملة اسمها "تطهير المجتمع"، على رأسها شخص يشتغل بالمحاماة، طالب في دعوته القضائية، إلى جانب منع الفيلم "تقنين الإنترنت بما يتفق وقيم وتقاليد المجتمع المصري، وحماية الأمن القومي، والمصالح العليا للدولة". وهذا ما ذهب إلى أبعد منه معلّق على الشأن العام: في المطالبة بوقف الشبكة التي أنتجت الفيلم لا في مصر وحسب، ولكن في الشرق الأوسط، أيضاً، وفي التحذير من محاولة استهداف "الأسرة العربية والمصرية" بأعمال تنتمي إلى الجيل الرابع من الحروب. ولا ننسى فتوى الأزهر.
لا بأس. هل يستحق عمل سينمائي هذا النوع من الردود والتحذيرات والدعوات والمطالبات؟ الجوب: نعم ولا. نعم: في مجتمعات يصلح كل ما فيها قناعاً لشيء آخر مختلف تماماً. ولا: إذا توفّرت تعددية وضمانات تحد من جدوى ومردود وصدقية لعبة كهذه.
وما يعنينا: رصد ما في الردود من تجليات حربية، لغة ودلالات وأخيلةً، تنتمي إلى مخيال يبدو أنه تعسكر فعلاً. ولا يقتصر الأمر (في التحليل السيميائي لدعوات وتصريحات المعارضين بوصفها بنية خطابية وسردية في آن) على تكرار كلمة الحرب نفسها، وتشخيص الفيلم كمحاولة "لضرب" قيم "الأسرة المصرية والعربية"، بل يتعداه، إلى تحويل "الأسرة المصرية والعربية" إلى كينونة مجازية تشبه "الجبهة الداخلية" في لغة الحرب، بما يعني ويستدعي التحذير من محاولة اختراقها، وضرورة تحصينها وحمايتها. وبهذا الحد الدلالي، وعنده، أصبح هؤلاء، بحكم مفرداتهم، لا تخصصاتهم المهنية، جنوداً في برج مراقبة متقدّم، وأصبحت دعواتهم طلقات تحذيرية.
وإذا كان ثمّة من ضرورة للتدليل على حقيقة ما وسمناه بالخيال الذي تعسكر، فإن ما يتجلى في تلك الدعوات، كبنية خطابية وسردية، من أحكام مطلقة، وإنكار للنسبية، وقياس كل شيء بمسطرة "الأمن القومي"، يصلح كوسيلة إيضاح وبرهان.
فمَنْ قال إن قيم وأسلوب حياة "الأسرة المصرية والعربية" في القاهرة الجديدة، ومقابر الإمام، ومخيم جباليا ومدينة روابي، وخميس مشيط وبيروت، ودمشق وتلعفر، كينونة واحدة، ونسخة بالكربون عن بعضها؟ لا يوجد شيء أسمه "الأسرة المصرية والعربية"، بل توجد نماذج أسرية مختلفة داخل البلد الواحد. وما أدراك كيف تكون المقارنة إذا تكلمنا عن الفرق بين المراكز الحضرية والحضارية منذ سبعة آلاف عام، وتكوينات صحراوية لم تعرف بعد معنى تلامس الأجساد في الفضاء الاجتماعي العام.
وما زلنا في موضوع الخيال الذي تعسكر. ففي معرض البحث عن وسيلة إيضاح وبرهان جديدين ثمة ما يبرر التركيز بشكل استثنائي وخاص على شيء اسمه حملة "تطهير المجتمع". والواقع أن في مجرد وجود حملة كهذه ما يثير الذعر، ويقرع أكثر من جرس للإنذار. لمفردة "التطهير" إضافة إلى دلالتها العسكرية، دلالات صحيّة وطبيّة. يجب تطهير الجرح، مثلاً، قبل تطهيره.
ولكن إذا استُخدمت كلمة "التطهير" في سياق الكلام عن ظواهر "سلبية" في المجتمع، وأصبحت عنواناً لحملات عامة، فستكون الحملات المضادة، والملاحقات القضائية، وحتى الازدراء من جانب صنّاع الرأي، والمعلقين على الشأن العام، في الديمقراطيات الغربية، من نصيب القائلين بالتطهير، والقائمين على أمره. لماذا؟
لأن "التطهير" كلمة السر، ومفتاح الفاشية بمختلف متحوّراتها النازية، المعلمنة والدينية، وتجلياتها الشمولية في الماضي والحاضر. هي التي ساقت ملايين البشر إلى الهلاك في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكانت في جذر الجنون الأيديولوجي الستاليني والماوي والكمبودي. وقبل هذا كله، كانت كلمة السر في مخيال "الطهرانيين"، الذين أنشؤوا الولايات المتحدة.
وعلاوة على هذا كله، هي كلمة السر في مشاريع الإبادة الثقافية والدينية والعرقية، وآخرها الداعشي، وقد نعثر عليها "بعد التمكين" في ثنايا أيديولوجيا إخوانية تزعم "الاعتدال". لذا، ثمة ما يبرر القول: إن ما سدده الفيلم المذكور من ضربات "لأسرة مصرية وعربية" مجرّدة ووهمية، أقل بكثير مما تجلى في الرد عليه من استيهامات حربية، وخارطة إدراكية، لخيال تعسكر.
وتبقى، في هذا المقام، كلمة أخيرة بشأن حروب الجيل الرابع، طالما أن الكلام عن هذا النوع من الحروب قد تكرر فعلاً. لا أجد ضرورة لتفسير النظريات ذات الصلة بهذا الموضوع (يمكن العثور على مراجع كثيرة على الإنترنت). وقد شنها الإسرائيليون ضدنا في الانتفاضة الثانية، ولم تتوقف حتى الآن.
أسوأ ما في موضوع حروب الجيل الرابع، في كلام الغاضبين من الفيلم، والمُحذرين من تهديده للقيم والأخلاق، والداعين إلى "تطهير" المجتمع، أن دعوات التطهير" تُعتبر، وأصبحت فعلاً، أسلحة كلاسيكية من أسلحة الجيل الرابع. وهذا يعني أنها صارت مكشوفة. لا يعتمد هذا النوع من الحروب على خوض معارك قصيرة وحاسمة، بل يستهدف تفتيت الكيان السياسي والاجتماعي للعدو، في حرب استنزاف طويلة الأمد، لا بالهجمات العسكرية وحسب، بل بالهجمات الثقافية، والأيديولوجية، والاقتصادية والمعنوية بما يضمن "كي وعي العدو"، كما يقول يورام بيري في كتاب فائق الأهمية عن كيفية شن هذه الحرب على الفلسطينيين.
وهل ثمة من وسيلة أنجع وأفظع، لتفتيت وتدمير جبهة العدو الداخلية، من إقناع مواطني العدو أنفسهم بضرورة وأهمية "تطهير" مجتمعهم مما يمثل تهديداً للأخلاق والقيم. بهذه الطريقة تُضرب الوحدة الوطنية، يقضي التعصّب على التعددية، وتُستنزف الطاقات في معارك وهموم جانبية كارثية ومُكلفة.
وبهذا المعنى، يُمثل داعية "التطهير"، و"النظافة" الأخلاقية، بصرف النظر عن النوايا، جزءاً من سلاح العدو، ويتجلى كتهديد لسلام وسلامة مجتمعه أكبر بكثير من مخاطر أفلام توهّم أنه يحمي المجتمع من شرورها. وهذه مفارقة كاشفة وسوداء.