في الحرب الدموية الدائرة بين روسيا وأوكرانيا للأسبوع الرابع، قلق العالم كله وأثيرت الهواجس ومشاعر التضامن مع الشعب الأوكراني جراء مشاهد الفظاعة التي تصل عبر شاشات التلفزيون. والسؤال الذي يثور في قلب كل الناس هو: هل ستتحقق هدنة، أم ستشتد الحرب وتزرع المزيد من الموتى والدمار، وهل ستتدهور إلى حرب عالمية ثالثة؟ حاكم واحد، ذو وجه أعنق، يلف كل العالم على إصبعه، لا تهتز له شعرة لمشهد الخراب الذي يوقعه على دولة جارة وسماع قصة ضحايا، كثيرون منهم مواطنون بسطاء ونساء وشيوخ وأطفال، ولاجئون فارون للنجاة بأرواحهم.
ما يقلقه هو الدول المحاذية ذات الحدود المشتركة مع روسيا: ليتوانيا، لاتفيا، أستونيا، ملدوفيا وبولندا. فهل يمكن بالذرائع نفسها التي اجتاح بها أوكرانيا، أن يزج بالجيش الأحمر سافك الدماء ليجتاح هذه الدول أيضاً، وهي التي كانت حتى التسعينيات جزءاً من الإمبراطورية السوفياتية أيضاً؟ في تموز 1940، عندما دخل الروس إلى لاتفيا، كتب يهودي من هذه الدولة، خائفاً، لأقربائه في الخارج: “تعرفون أن لدينا ضيوفاً، وخلاف ذلك، كل شيء عندنا على ما يرام”. بعد نحو سنة، وصل إلى لاتفيا “ضيوف” آخرون – الألمان النازيون. بالفعل، ليس لطيفاً أن يكون لك جار كهذا؛ يسعى بعد 82 سنة مرة أخرى لأن “يحل ضيفاً” لدى جيرانه، مستعداً بكل ثمن لتجسيد طموحاته الإمبريالية.
الأنباء المشجعة التي تأتي من ساحات القتال هي أن الجيش الروسي يراوح في الوحل، يجد صعوبة في تحقيق أهدافه. فالحساب الذي أجراه الكرملين يبدو كحساب كاذب. في روسيا الآن من يدفع ثمن الفشل المتحقق. وتتعاظم رياح النقد على الحكم، وإلى جانب ذلك تشتد اليد على المتظاهرين والمنتقدين، وتمنع حرية المعلومات والتعبير، وتعود إلى أيامها الظلامية مثل الحكم الشيوعي. بالمقابل، يقاتل الأوكرانيون بشجاعة، ويعززون هويتهم القومية ويبلورون رواية بطولة.
يسكن في أوكرانيا جموع من اليهود الذين يسعون الآن للفرار والوصول إلى دولة اليهود، وهو ما لم يفعلوه في الأيام العادية. فجوهر الهجرة كان سببه منذ الأزل خطر الاضطهاد واللاسامية وانعدام الأمن، أكثر منها دوافع صهيونية. يبدو الأمر مفهوماً في كل ما يتعلق بإنقاذ حياة اليهود والهجرة، ولهذا الغرض بذل كل جهد بالفعل. تعلمنا من الحروب أن نهاجم المرة تلو الأخرى، ونقف وحدنا في المعركة، والعالم في قسمه الأكبر لا يبالي. وها هي حرب بعيدة تجري عن حدودنا. فلماذا نزج بأنفنا الصغير بين صقرين كبيرين. الحياة في إسرائيل تتواصل كالمعتاد، ولا يقلقنا إلا السلالة الجديدة من كورونا، نغضب على ارتفاع الأسعار وعلى طابور طويل في الطريق إلى الحياة الطيبة في شواطئ سيناء. أما هناك، في أوكرانيا، يموت الناس تحت القصف ويفرون، وهنا يتمتعون بالهدوء.
ثمة خوف من الانزلاق إلى حرب عالمية. وبالمقابل، المحاولات التي تجريها دوائر في اليسار عندنا للتشبيه بين أوكرانيا ويهودا والسامرة، محاولات لا أساس لها. مثلما يريد الروس “تحرير” أوكرانيا، يقال، هكذا إسرائيل “حررت” الضفة الغربية. مثلما يقمع الروس الأوكرانيين، هكذا تقمع إسرائيل الفلسطينيين. تعقد في تل أبيب ندوة بعنوان “بين كييف ورام الله”. فماذا سيبحثون فيها؟ “الدروس المستخلصة من حرب أوكرانيا للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني”. وكأن بالروس ينسخون فقط أفعال إسرائيل الإمبريالية في يهودا والسامرة. غير أن روسيا تريد أن تضم أرضاً كبيرة أخرى، بينما تعرف إسرائيل بأن التخلي عن الضفة، التي إن فتح عدوان منها ضدها، فسيعرض وجودها للخطر. نذكر الوزير نحمان شاي، الذي يشارك لسبب ما في هذه الندوة الهاذية: “لسنا ضيوفاً في يهودا والسامرة”. بل أكثر من ذلك: المحلل الرئيس في القناة 12 أمنون ابرموفيتش، الذي أعطيت له حرية قول سياسي متحيز، يكرر قوله الديماغوجي أن أولئك ممن يعارضون استيعاب اللاجئين غير اليهود من أوكرانيا، يسارعون إلى ضم ثلاثة ملايين عربي وتعريض إسرائيل بصفتها دولة يهودية للخطر.
تتصرف إسرائيل ككل الدول التي لا حدود لها مع أوكرانيا بالنسبة لما يتعلق باستيعاب اللاجئين البائسين. تمد المساعدة الإنسانية والمعنوية للأوكرانيين الفارين من المعركة، وينبغي الترحيب على هذا. نشارك أيضاً في التقرير الإعلامي الواسع وفي النشاط السياسي مع وهم بأن مشاركتنا تؤدي إلى وقف الاحتلال الروسي. وثمة صحافي فلسطيني يقدم مبرراً لاسامياً للغزو الروسي: “اليهود بدأوا يهاجرون إلى أوكرانيا كجزء من خطتهم لجعلها مكاناً مقدساً. وأثار الأمر تخوف بوتين الذي يعرف مخاطر الأمة اليهودية ويريد منعها من المس بروسيا”.
الروس لا يعتزمون أن يكونوا ضيوفاً في أوكرانيا. يبدو أن الوحل وتصميم الأوكرانيين سيمنعانهما، مثلما صد الروس أنفسهم الغزاة النازيين قبل نحو 80 سنة.