في الحفاظ على سردية النكبة

تنزيل.jpg
حجم الخط

بقلم د عاطف أبو سيف

 

 

 

النكبة ليست حدثاً ومناسبة للتذكر لأنها ليست في باب النسيان، ولا يمكن أن يمر يوم في حياة الشعب الفلسطيني إلا وتكون حاضرة. ولكن في كل عام لا بد من إعادة التفكير فيما يجب فعله من أجل الحفاظ على الذاكرة الجمعية وتحصينها تمكيناً للسردية الفلسطينية الحاملة للحقوق الوطنية والسياسية. وربما في قلب كل ذلك حاجتنا الوطنية لمشروع أممي للحفاظ على ذاكرة النكبة والتعريف بالجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق شعبنا الأعزل. عملية مركبة ولكنها متكاملة، فمن جهة ثمة حاجة للحفاظ على تطوير وحماية وتعزيز وتعميم السردية الوطنية حول النكبة والوجود الفلسطيني في البلاد، ومن جهة أخرى هناك حاجة أكبر ربما وأكثر إلحاحاً لتعميم التعريف بالنكبة وآثارها وجرائمها وما نتج عن هذه الجرائم من كوارث ما زالت تؤثر في حياة المواطنين وأنسالهم بعد أكثر من سبعين عاماً. مرد ذلك جملة أسباب أولها بالطبع هول النكبة وما شكلته من جرائم غير مسبوقة في التاريخ وما ارتكب خلالها من مذابح وإبادات جماعية وتطهير عرقي ومحو لقرى ومدن كاملة وتهجير ساكنها، وليس آخرها أن النكبة فعل مستمر حتى الآن من جهة استمرار تأثيرها على حياة الأجيال اللاحقة التي ظلت لاجئة لم تتم إعادتها لبيوتها التي هجرت منها أو تم تهجير ذويهم منها، أو من جهة أن الجرائم لن تتوقف فما زالت الجرائم والمذابح ترتكب من قبل الدولة التي تأسست على جرائم تلك العصابات.
بالطبع، فإن شعبنا لا ينسى ولن ينسى لأن النكبة جزء من حياته وتفاصيلها، حيث يصعب أن تجد فلسطينيا لم تمسه ولم تزل تمسك بالكثير من واقعه المعيشي سواء الفلسطيني الذي يعيش في المخيمات أو نشأ فيها أو ذلك الذي ورث حكايات اللجوء مباشرة من جديه أو والديه، أو ذلك الذي يعيش الفعل النكبوي كل يوم من مصادرة أرضه وملاحقة أزهار ثماره وقطيع ماشيته من قبل الاحتلال بجنوده ومستوطنيه. وحين تصبح النكبة جزءا من الحياة فذلك أن الخطأ التاريخي الذي وقع من ظلم كارثي على الشعب الفلسطيني لم يتم تصويبه، ولأن المجتمع الدولي ظل عاجزاً عن مواجهة التزييف الذي حدث والضغط من اجل تصويبه. وطالما لم تتم إعادة الاعتبار للحقوق الوطنية الفلسطينية وتصويب ما حدث فإن ذاكرة النكبة ستظل تعتمل في الوعي الفلسطيني وتنتقل من جيل لجيل دون يأس أو ملل. لن ينسى الصغار إذا مات الكبار، ومن بقي داخل البلاد وتهجر فيها لم يصبح ماسح أحذية و»جنائنيا» بل صار طبيباً وطياراً وخبيراً وعالماً، والطفل المشرد في المخيم لم يمت ببأسه ويأسه بل ساهم بشكل كبير في الحياة حوله دون أن يتنازل عن حلمه بالعودة إلى القرى أو المدينة التي ولدت فيها جدته. وما زالت تلك الحكايات تنتقل من جيل إلى جيل كأنها الجين الوراثي لفعل التذكر نفسه.
الجزء الأهم في الحرب الصهيونية على شعبنا يتمثل في الحرب على الرواية. الحرب التي يراد فيها أن يصدق العالم السردية الصهيونية حول البلاد التي ليست لهم ويريدون لها أن تكون لهم، الحرب لتشويه مسار التاريخ وخلق أحداث لم تجرِ ومعارك لم تقع إلا في خيالات كتبة عابرين وجوالة لم تسمهم لفحة الأرض المقدسة. الحرب من أجل أن يصدق العالم الكذب ويقنع نفسه بضرورة تجنيد كل طاقاته من أجل إسناد ما تقوم به دولة الاحتلال من جرائم بحق شعبنا والاشتراك في محاربة الحق من أجل ينتصر الباطل. لذلك فإن الجزء الأكبر من الحرب هي حرب لتشويه الحقيقة الفلسطينية وطمس حقيقة ما جرى على الأرض من لحظة العبور الافتراضي للغزاة قبل آلاف السنين مروراً بكل سير الغزاة السابقين واللاحقين وصولاً إلى جرائم النكبة المستمرة.
لذلك فقد أطلقت الحكومة الفلسطينية وكجزء من هذا الوعي برنامجاً وطنياً لحماية الرواية الفلسطينية يشكل عدة تدخلات في مسارات مختلفة. وجوهر هذا الفهم الذي كتبه الرئيس محمود عباس في مقدمته لسلسلة الموروث الثقافي الذي تعمل وزارة الثقافة خلالها على طباعة كل ما طبع في فلسطين قبل النكبة. «لم تكن فلسطين أرضاً قاحلة بل كانت معطاءة وكان أبناؤها وبناتها يبدعون في الشعر والقصة والرواية والمسرح والموسيقى والسينما والعلوم الاجتماعية والفكر والفلسفة. كانت فلسطين تزخر بالمطابع والمكتبات والصحف والمجلات والمسارح ودور السينما والمراكز الثقافية والمدارس والمعاهد وكانت منارة يهتدى بها الآخرون ويفدون إليها طلباً للعلم وللمشاركة في الحياة الثقافية الفاعلة التي كانت تزدهر فيها».
بيد أننا بحاجة لجهد مماثل على الصعيد العالمي. لا نريد لأحد أن ينسى ما حدث بحقنا وما ارتكب ويرتكب بحقنا من جرائم. كما نريد أن نتذكر فإننا نريد للعالم أن يتذكر، نريد له أن يتذكر كيف تمت محاولة محو شعب بأكمله والحلول مكانه بتعاون القوى الكبرى وبتشريع من المؤسسات الدولية. إن التعريف بجرائم النكبة يجب أن يكون أولوية من أجل تعزيز السردية الفلسطينية وتعميمها. وذلك لا يستقيم دون إطلاق برنامج أممي يهدف لتعريف العالم بما حدث وتوثيق الجرائم المختلفة والتذكير بها بشكل مستمر. لا يكفي أن نعرف، على الجميع أن يعرف، وان التذكر ليس مجرد عدم النسيان بل هو تعزيز المواقف السياسية والقانونية بالأدلة الداعمة من أجل تطوير الإجراءات العملية. إن هذا البرنامج وحده سيشكل رافعة من أجل إسناد الحقوق الفلسطينية بين شعوب ودول العالم. لا نريد لأحد أن يحارب عنا ولا أن يدمر أحداً لكننا نريد للعالم كما اعترف بجرائم الأرمن وبالهولوكوست وبجرائم كثيرة في العالم أن يتذكر أيضاً أن ثمة جرائم مسكوتا عنها في التاريخ تمت بموافقته. لا نريد الاعتذار فقط بل الموقف الأخلاقي والعملي المستحق. إن الحفاظ على سردية النكبة لا يكتمل إلا بالعمل متعدد الاتجاهات من أجل أن تبقى حاضرة في ظل غياب الضمير العالمي حتى يستيقظ ويصحح جرائمه الصامتة بحق دمائنا التي أريقت.