غادرنا العام 2015 والوضع في فلسطين كارثي ومأساوي، فالانقسام مستمر والإحتلال ماض في جرائمه، ومع ذلك فالهبة الفلسطينية كانت الأمل والعلامة الفارقة للفلسطينيين ولإسرائيل، وهي مستمرة ومتدحرجة، ومع أنها جاءت مفاجأة للقيادة الفلسطينية، وهي غير سعيدة بها وإن كانت التصريحات تدعمها، إلا أن مؤشراتها كانت واضحة منذ سنوات وتجلت في القدس باحتجاجات المقدسيين وبعمليات الطعن والدهس خلال العام 2014.
والحقيقة أن القيادة لا تريد إستمرارها ولم تسعى إليها وتنظر إليها من باب الاستثمار المحدود وحتى في هذا فشلت، والقول أنها نتيجة إصابة الفلسطينيين خاصة الشبان باليأس والإحباط، وليس بدافع وعيهم الوطني وأن الإحتلال هو السبب في كل ما يجري في فلسطين، ورداً على إرهاب المستوطنين وجرائمهم، وما يعانيه أهل القدس من قمع وإفقار وتهديد مستمر بالتهجير وسحب الهويات وهدم البيوت والعقوبات الجماعية والإعتداءات على المسجد الأقصى.
فالشبان والصبايا فاجئوا القيادة وانطلقوا وحيدين منفردين في عملياتهم لذا حيرت القيادة والإسرائيليين الذين يطلقون عليها إنتفاضة الوحيدين والمنفردين لأنهم منفردين في إرادتهم وقرارهم ونواياهم وقدرتهم على إيقاع الأذى بإسرائيل واستهداف أفراد من الجيش والمستوطنين، ومعظم العمليات تنفذ في القدس والضفة الغربية المحتلة، ولم ينتموا للفصائل الفلسطينية وعملياتهم ليست بأوامر منها.
الهبة انطلقت من القدس المحتلة وتدحرجت إلى الضفة الغربية، وتساندها غزة بالفعاليات غير المنظمة والموحدة وكأنها إسقاط واجب، الإسرائيليون خاصة قادة الأجهزة الأمنية السابقين وخلال السنوات الماضية حذروا من إنتفاضة فلسطينية ثالثة لكنهم ومن خلال شكلها القائم لم يعرفوا كيفية قراءتها وقراءة الفلسطينيين خاصة الشبان، والمصيبة أن القيادة والفصائل وبعض النخب السياسية والثقافية لم يعرفوا قراءتها ولم يتوقعوها، ربما لأنهم لم يريدوها وبعض منهم يشكك في الفتيان والفتيات القاصرات والذين حاولوا أو نفذوا عمليات طعن.
فالهبة لم تأخذ حتى الآن البعد الشعبي الجماهيري الواسع وإنحصرت في عمليات الطعن والدهس، لأنها لا تعبر عن رؤية وموقف القيادة الفلسطينية غير المعنية بتوسيع الهبة جماهيرياً خشية من حماس وتدهور الأوضاع للفوضى كما تدعي، وعدم السيطرة عليها، وتحول الهبة من العمل الجماهيري إلى العمل العسكري. ومحاولات الفصائل الإنخراط فيها فشلت حتى الآن وفي الضغط لتوحيد الجهود وإنهاء الإنقسام والتوحد خلف الشبان والإنتفاض على الحال الكارثي، فالفصائل عاجزة عن إتخاذ خطوات لدعم الهبة فهي تخشى من مواجهة السلطة وأجهزتها الأمنية ومن ملاحقة الإسرائيليين، مع أن إسرائيل لم تتوقف عن سياسة العقاب الجماعي والاعتقالات والقتل اليومي ووصل عدد الشهداء نحو 142 شهيداً، وآلاف المعتقلين منهم المئات من الأطفال.
إسرائيل تتنكر للفلسطينيين وحقوقهم ومستمرة في تجاهلها وفهم وقراءة حقيقية للهبة، وهناك إجماع صهيوني في مواجهة مقاومة الفلسطينيين والمطالبة بحقوقهم، لذا هي مستمرة في إرتكاب الجرائم والإنتهاكات وفرض العقوبات الجماعية القاسية ضد الفلسطينيين وذوي الشهداء باحتجاز جثامينهم وتجميدها تحت درجات حرارة متدنية كي تشوه معالمهم وتمنع الفلسطينيين من الاحتفاء بهم أثناء التشييع.
الهبة الفلسطينية فرصة للفلسطينيين لإعادة الإعتبار للقضية الفلسطينية والمشروع الوطني وتوحيدهم وإنهاء الإنقسام، وقراءتها بشكل وطني بعيد المصلحة الحزبية وعن التسرع في إستثمارها بشكل سلبي، والإتفاق لمرة واحدة على عملية مراجعة حقيقية لمسيرة النضال الفلسطيني وبرامج وتحالفات الفصائل والقيادة، وطريقة قيادتها والنظام السياسي وإختيار وسائل مقاومة يتم التوافق عليها سواء كانت شعبية وجماهيرية أو غيرها في ظل إختلال موازين القوى التي لا تعمل لصالح الفلسطينيين، والمنطقة العربية متفجرة وإسرائيل تحاول إستغلال ما يجري في محيطها وتتغول أكثر ضد الفلسطينيين.
الهبة أثرت على إسرائيل وسمعتها والتراجع في شعور الإسرائيليين بالأمن الشخصي، وأغلبيتهم يترددون في ارتياد الأماكن العامة، والفصائل والقيادة لم تدرك أهمية عزلة إسرائيل وتكرار قولها أنها لا تسعى لعزل إسرائيل، إنما الاحتلال وكأن إسرائيل ليس دولة إحتلال، لذلك لم تعطي أهمية لتزايد الانضمام إلى الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل وفرض عقوبات عليها (BDS)، وهذه مؤشرات على أن عزلة إسرائيل الدولية أخذت تتعمق أكبر، والأمثلة على ذلك قيام عدد من دول الإتحاد الأوروبي وسم منتجات المستوطنات في أسواقها واتساع ظاهرة وصف إسرائيل بأنها دولة عنصرية والمطالبة بفرض عقوبات ضدها.
الفلسطينيون يخشون من عدم قدرة القيادة السياسية والفصائل قراءة الواقع والمستقبل، وهم فقدوا الأمل بهم، فهم لم يستطيعوا حتى الآن فهم ماذا يريد الشبان والصبايا الذين منحونا الأمل، وما يتم من حديث عنه من تحقيق إنجازات سياسية ودبلوماسية، برغم أهميتها إلا أن هذا بدون قاعدة جماهيرية داعمة ولا يوجد إجماع واحتضان لها فالثقة مفقودة، ولا يعني فئات كبيرة من الفلسطينيين بشكل كبير. فهم مهمومون بهمومهم اليومية ومشكلاتهم وأزماتهم الحياتية، والتشاؤم يسيطر على تفكيرهم، كما أن إستمرار الإنقسام أفقد الفلسطينيين الثقة بكل ما يقال عن انتصارات سياسية وعسكرية، ويعتبرونها غير جدية ولم تحقق سوى مزيد من التراجع والتدهور على صعيد القضية الفلسطينية.