جدّد الغزو الروسي لأوكرانيا النقاش، في شأن تصدّع مكانة الولايات المتحدة الأميركية في السياسة والاقتصاد العالميين، وفي أن تلك الخطوة الروسية من شأنها تفكيك النظام الدولي القائم، والتحول نحو عالم متعدد الأقطاب، وانهاء الهيمنة الأميركية في العالم، وتالياً صعود روسيا كقطب دولي بمكانة فاعلة ومقررة.
في الواقع لا يمكن التصديق أن غزو روسيا لبلد مجاور لها من شأنه إضعاف الولايات المتحدة، التي تبعد آلاف الكيلومترات عنها، علماً أن ذلك البلد، والعديد من دول الجوار، كانت منطقة نفوذ لروسيا (القيصرية والسوفياتية) تاريخياً، حتى في عهد الهيمنة الأميركية على العالم، بمعنى أن روسيا هي التي تخسر جوارها.
أيضاً من الصعب التصديق أن دولة مثل روسيا، التي تعاني من تأخر اقتصادي، ومن تخلف تكنولوجي، قياساً بالولايات المتحدة والصين واليابان وأوروبا الغربية، ولا تعد من الدول العشر الأولى في العالم اقتصادياً، تعتبر حربها ضد أوكرانيا مدخلاً للتحول لدولة عظمى.
وأخيراً، ثمة شك كبير في أن التحول لدولة عظمى في عصر بات يرتكز على قوة الدولة في مجال العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد والثقافة وقوة النموذج، وليس على المساحة وعدد السكان وتوافر المواد الخام فقط، يتطلب استعراض العضلات العسكرية إزاء دول أضعف وأصغر.
وعلى أية حال فإن تطورات الأحداث منذ الغزو، أي منذ خمسة أشهر، بينت أن تلك المراهنة تمخضت عن إخفاق كبير، رغم احتلال روسيا أراضي في أوكرانيا، بالنظر للخسائر السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تكبدتها وما زالت، والتي من المتوقع أن تظهر اثارها الكارثية بعد حين.
عموماً تلك مناسبة لنقاش تلك الفكرة من واقع الاحصاءات والمعطيات، أي بعيداً من الأوهام والرغبات، مع علمنا أن النقاش في هذا الشأن ليس جديداً، إذ طرح إبان الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين (القطبين)، مع الحديث الايديولوجي عن "الحتمية التاريخية" القائلة بانهيار الرأسمالية وانتصار الاشتراكية، لكن ما حدث هو عكس ذلك، إذ انهار الاتحاد السوفياتي (ومعه المنظومة الاشتراكية)، من تلقاء نفسه، في مطلع التسعينات من القرن الماضي، رغم جبروته العسكري، بسبب النواقص والثغرات الكامنة فيه.
وقد تحدث زبينغيو بريجنسكي (المستشار الأسبق للأمن القومي الأميركي)، مثلاً، عن انهيار الاتحاد السوفياتي، بشكل مبكر، في كتابه الشهير: "بين عصرين"، الذي صدر قبل عقدين من حدوث ذلك (1970)، مؤكداً أن الولايات المتحدة ستكسب المباراة بفضل النموذج الذي تمثله، ولأن الاتحاد السوفياتي يعاني أزمات مزمنة بنظامه السياسي المغلق، وافتقاد مواطنيه للحرية، وتخلفه التكنولوجي.
وكنا شهدنا تحول الصين من الشيوعية إلى الرأسمالية، بإدارة الحزب الشيوعي ذاته، مع الحفاظ على نظام استبدادي – شمولي، بل وبارتباط وثيق مع قطاعات الاقتصاد في الولايات المتحدة، التي باتت تعتبر الصين بمثابة مصنع كبير لها، بحيث نقلت صناعاتها الملوثة للبيئة والتي تحتاج إلى عمالة كبيرة، إليها، للاستفادة من رخص اليد العاملة فيها، ومن عدم وجود تقدمات اجتماعية للعمال، وهو ما سهّل عليها تحديث قطاعاتها الصناعية، والانتقال إلى صناعات التكنولوجيا العاليا، وهذا هو سر العلاقة الوثيقة بين القطبين العالميين (الولايات المتحدة والصين)، وهو المسار الذي استثمرته الصين في صعودها ونجاحها. وبحسب المعطيات فقد ارتفع إجمالي الناتج المحلي للصين من 140 مليار دولار عام 1979 إلى 1.40 تريليون دولار عام 2003، ووصل عام 2019 إلى 14 تريليون دولار. كما ازداد الحجم الإجمالي للتصدير والاستيراد من 29 مليار دولار أميركي عام 1979 إلى 850 مليار دولار أميركي عام 2003، وصولاً إلى 2.5 تريليوني دولار عام 2019.
في المقابل، استطاعت النظم الرأسمالية (الليبرالية الديموقراطية)، مع كل ثغراتها وعللها، أن تتجاوز، أو تقلل من مخاطر، أزماتها التي مرت بها بسبب مرونتها وعقلانيتها وطابع نظمها السياسية، فهي التي أصبحت المنتج الأكبر للعلوم والتكنولوجيا في العصر الحديث، والتي باتت قاطرة التطورات الاقتصادية والاجتماعية في هذا العصر. وكان المفكر الاقتصادي فؤاد مرسي تحدث عن ذلك بكل وضوح، قبل حوالى ربع قرن، في كتابه المتميز: "الرأسمالية تجدد نفسها".
بالطبع، إن تلك الأنظمة تعرضت للنقد الشديد الى درجة أن مفكراً ومؤرخاً متميزاً مثل بول كندي تنبأ في كتابه: "صعود وهبوط القوى العظمى"، بهبوط مكانة الولايات المتحدة، بسبب أعبائها الخارجية وإنفاقها العسكري، قبل ثلاثة عقود، واضعاً يده على مكامن الخلل في النظام السياسي والاقتصادي والتعليمي في الولايات المتحدة. لكن ذلك لم يثبت تماماً إذ ما زالت الولايات المتحدة تتربع على عرش الاقتصاد العالمي، الذي تمتلك ربعه، مع تفوق هائل، أو فجوة كبيرة لصالحها، في مجال العلوم والتكنولوجيا، كما في مجال القوة العسكرية. وهذا كله يؤكد ما ذهب إليه فريد زكريا، باعتباره أن الولايات المتحدة حافظت على مكانتها كقوة عظمى طوال العقود الماضية، وأن القصة لا تتعلق بهبوط مكانتها وإنما تتعلق بـ"صعود البقية"، بعد التعافي من الحرب الثانية، كاليابان وألمانيا، وبعدهما الصين.
في لغة الأرقام مثلاً، فإن الناتج القومي للدول الصناعية السبع الكبرى بلغ 42.3 تريليون دولار لعام 2021، من الناتج الاجمالي للاقتصاد العالمي (96.1 تريليون دولار حسب بيانات البنك الدولي)، بما يعادل 44 في المئة منه، في حين بلغت مساهمة دول تجمع البريكس في هذا الناتج 24.2 تريليون دولار، وبما يمثل نسبة 25 في المئة من الاقتصاد العالمي، وهي النسبة التي تستحوذ عليها الولايات المتحدة لوحدها؛ مع الفارق الكبير في عدد السكان.
وفي ما يخص روسيا، فهي في الواقع بمثابة دولة عادية، إذ إنها ليست ضمن الدول العشر الكبرى، رغم أنها أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، ورغم حيازتها على ثروات معدنية هائلة، من ضمنها النفط والغاز، إذ يبلغ الناتج الإجمالي السنوي لروسيا حوالى 1.7 تريليون دولار، أي أقل من إيطاليا أو كوريا الجنوبية أو البرازيل.
فوق كل ذلك فإن مصدر قوة الولايات المتحدة متعدد الأبعاد. فهي تمتلك، أيضاً، 171 شركة بين أكبر 500 شركة في العالم، وفيها 43 جامعة من أهم مئة جامعة في العالم، وهي الأعلى إنفاقاً على البحث العلمي مع موازنة قدرها 700 مليار دولار، وتستحوذ على أكبر إنتاج في الإعلام ووسائل الاتصال، والأهم أنها القوة القائدة للعالم في مجال العلوم والتكنولوجيا. أيضاً تكمن قوتها في أنها أكثر دولة تستقبل مهاجرين، وتشكيلتها الاجتماعية تضم أكبر خليط قومي وديني وثقافي في العالم، يتعايش فيها بفضل نظامها الديموقراطي، القائم على الحريات والمواطنين الأفراد، من دون أي تمييز.
أما المقاربة في مجال القوى العسكرية، فإن الإنفاق العسكري للولايات المتحدة يساوي نصف إنفاق العالم بمبلغ قدره 700 ـ 800 مليار دولار، وهي تحتل ثلث السوق العالمية من التجارة بالسلاح، مع الفارق النوعي الكبير بين الأسلحة الأميركية ومثيلتها الروسية، من الناحية التقنية ومنظومات المعلوماتية والاتصالات والإدارة. وعلى الرغم من أن هذا المبلغ كبير، فإنه يمثل جزءاً صغيراً من ناتجها القومي السنوي، بنسبة تقدر بنحو 3 – 4 في المئة، علماً أن الناتج القومي الأميركي أكبر بـ 13 مرة من الناتج القومي لروسيا (1600 مليار دولار).
في المقابل فإن الصين تأتي في المركز الثاني في الانفاق على التسلح بـ252 مليار دولار (2020)، أي حوالى ثلث الإنفاق الأميركي، وتأتي الهند في المركز الثالث مع إنفاق 72,9 مليار دولار. في حين أن روسيا تحتل المكانة الرابعة في الإنفاق على التسلح، الذي وصل إلى مبلغ 66,4 مليار دولار (2020)، أي ما يشكل حوالي 3 في المئة من مجمل ناتجها المحلي. وهذا يفيد بأن قوة روسيا تنبع من كونها دولة نووية أساساً، وليس من عدد جيشها، أو قواتها البحرية أو الجوية، كما وليس من قوة اقتصادها أو تفوقها التكنولوجي أو العلمي، علماً أن ألمانيا رفعت موازنتها العسكرية من 56 مليار دولار الى مئة مليار دولار سنوياً وذلك بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
خلاصة القول: مفهوم أن الولايات المتحدة تنتهج سياسات الاستعلاء والهيمنة، لا سيما في موقفها من القضايا العربية، ومحاباتها لإسرائيل، إلا أن ذلك لا يفيد بإحلال الأوهام أو الرغبات محل الواقع الموضوعي، وضمنه القول بانهيارها أو أفولها، إذ إن تلك الدولة ما زالت تتحكم بالعالم، ليس بتفوقها العسكري، فقط، كما يروج البعض، وإنما بحكم تفوقها التكنولوجي والعلمي والاقتصادي، ونظامها السياسي، رغم كل الشوائب والثغرات المتضمنة فيه. وأيضاً يحدث ذلك لأن "الرأسمالية تجدّد نفسها" في الولايات المتحدة وفِي الدول الغربية الرأسمالية الديموقراطية أكثر بكثير من غيرها من الدول الرأسمالية والاستبدادية.