حدود الدور التركي في رفع الحصار، وحل أزمة الكهرباء

التقاط
حجم الخط

د. إبراهيم يوسف عبيد

أستاذ العلاقات الدولية المساعد، جامعة الأقصى-غزة.

منذ صعود حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم في تركيا في العام 2002 سعت تركيا إلى المواءمة بين دستورها العلماني، وجذورها الإسلامية، واتبعت سياسة داخلية-تمثلت في القيام بمجموعة كبيرة من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والدستورية والقضائية، والعسكرية-حظيت بقبول ورضى وتأييد قسم كبير من الأتراك الذين ذاقوا درعاً من الانقلابات العسكرية، وعدم الاستقرار السياسي فيها خلال حقب الستينيات والسبعينات والثمانينيات فوضعوا ثقتهم في الحزب عبر صناديق الاقتراع في مراتٍ عدة حتى غدت تركيا من الدول الإقليمية الأكثر استقراراً بفعل سياساتها الإصلاحية التي انعكست إيجابياً على واقعها الداخلي، وساهمت في بروز دورها الإقليمي بشكل ملفت للنظر.

وبالتوازي مع استقرار نظامها السياسي داخلياً، حاولت تركيا التأثير في النظام الإقليمي، عبر اتباعها لسياسة جديدة تقوم على الانفتاح على دول الإقليم والعالم، وإقامة علاقات متوازنة مع دولِه بما يحقق مصالحها القومية، ويضمن الاستقرار في المنطقة، وقد عرفت هذه السياسة بـ "سياسة تصفير المشكلات" التي نظّر إليها وزير خارجيتها السابق، ورئيس وزرائها الحالي "أحمد داوود أوغلو".

لكن هذه السياسة لم تستمر طويلاً؛ فما يسمى بـ"ثورات الربيع العربي"، والمستجدات على الساحة العربية، والاضطرابات التي اجتاحت بعض دول الإقليم، فتحت شهية القيادة التركية لتغيير قواعد سياستها بما يحقق لها أكبر قدر من لعب دور مؤثر في المنطقة لملاً الفرار الناتج عن فشلها في دخول الاتحاد الأوروبي، وكذلك عدم استقرار دول الإقليم، فأيدت الثورات العربية، وقطعت علاقاتها مع أنظمته الاستبدادية، وراحت تدعم هذه الثورات، إعلامياً وعسكرياً في بعض الأحيان كدعم الجيش الحر، والمعارضة السورية مثلاً.

كما وقفت مع حركة حماس بعد فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006، وحافظت على علاقة متوازنة بين حكومة حماس المقالة في غزة-بعد سيطرة الحركة عسكرياً على غزة في يوليو 2007-وبين السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس، وحاولت أن تلعب دو الوسيط في إنهاء الانقسام الفلسطيني.

وبالتوازي مع تأييدها لثورات الربيع العربي، ودعمها الإعلامي والسياسي للقضية الفلسطينية، حافظت تركيا بقدر كبير على علاقاتها الاستراتيجية إسرائيل-العدو الأول للعرب-، بل وعززتها في مختلف المجالات، حتى أصبحت العلاقة بين الدولتين يصعب الفكاك منها. وهو ما دفعني إلى تسليط الضوء بقدرٍ كبير من الموضوعية حول طبيعة الدور التركي في المنطقة، وماهية هذا الدور، والعلاقة المتناقضة في سياسة تركيا الخارجية، بين تأييدها لإنهاء الصراع العربي-الإسرائيلي، دعمها للعرب في صراعهم مع إسرائيل من جهة، وحفاظها على علاقاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والتجارية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي من جهة ثانية.

تبدو السياسة الخارجية التركية مثيرة للجدل خصوصاً فيما يتعلق بطبيعة العلاقة مع إسرائيل التي تمثل ركيزة أساسية من ركائز السياسة الخارجية التركية في المنطقة، فعلى الرغم من حساسية الموقف التركي وتعقيدات الصراع العربي-الإسرائيلي، إلا أن تركيا نجحت نسبياً ومرحلياً في لعب دور بارز ولافت في المنطقة، بالتوازي مع المحافظة على استمرارية علاقاتها مع إسرائيل رغم التراشق الإعلامي والتأزم السياسي جراء سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين، وأخرها حادثة سفينة "مرمرة" التركية التي ظن الكثيرين أنها ستنهي العلاقات بين الدولتين وتجعلها من الماضي، لكنها تبدو اليوم كمسرحية اكتملت فصولها وانتهت أحداثها باعتذار أو تعويض سيعيد العلاقات بين الدولتين إلى سابق عهدها أو ربما أفضل، وهو ما صرح به رئيس وزرائها "احمد داوود أوغلو" الذي قال: "إن الاعتذار الإسرائيلي عن أحداث سفينة مرمة سيعيد العلاقات بين الدوليين إلى وضعاً أفضل من السابق". مع يقيني التام أن العلاقات بين الدولتين لم تنقطع خصوصاً في المجالات العسكرية بشقيها الأمني والاستخباراتي، والاقتصادي والتجاري.

وباعتقادي أن العلاقات التركية الإسرائيلية عصية على الانقطاع، فكلا الدولتين تدرك أهمية بقاء العلاقات بينهما على أفضل حال لاسيما تركيا، وقبل الحديث عن هذا الموضوع، لا بد من إعطاء نبذة قصيرة عن تاريخ وطبيعة العلاقات التركية-الإسرائيلية، كمدخل للوقوف على ماهية الدور التركي في المنطقة وخاصة قطاع غزة، وطبيعة هذا الدور.

البداية والتطور:

تعود جذور العلاقات الإسرائيلية التركية إلى عام 1949، عندما اعترفت تركيا بإسرائيل، حيث أشار الرئيس التركي آنذاك "عصمت إينونو" في نوفمبر1949 إلى الاعتراف بإسرائيل قائلاً: "لقد تم إنشاء علاقات سياسية مع دولة إسرائيل، نأمل أن تصبح هذه الدولة عنصر سلام واستقرار في الشرق الأوسط".

 استغلت إسرائيل علاقة تركيا العدائية بالعالم العربي في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في تدعيم علاقاتها معها، فأيدّت تركيا العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وصوتت في الأمم عام 1957 المتحدة ضد استقلال الجزائر، ولعبت دوراً فاعلاً في حلف بغداد 1956، ولاحقاً في حلف الناتو، وعبّرت عن قلقها من الوحدة بين مصر وسورية عام1961 وبقيت السياسة التركية على هذا المنوال خلال حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، مع توثيق ترابطها مع إسرائيل في مجالات مختلفة (عسكرية واقتصادية، وتجارية).

وفي عام 1994 اتجهت تركيا إلى تطوير علاقاتها مع إسرائيل في مجالات عدة عبّرت عنها الاتصالات رفيعة المستوى بين مسئولي البلدين، من خلال الزيارات المتبادلة بين تل أبيب وأنقرة، حيث شكلت هذه الزيارات تطوراً نوعياً في طبيعة العلاقات، والتي توجت في آذار/مارس عام 1996 بتوقيع اتفاق "التعاون العسكري الاستراتيجي"، الذي يعد من أهم المستجدات ذات التأثير على المعادلة الأمنية في الشرق الأوسط، وما يمثله هذا الاتفاق من خطر على الأمن القومي العربي.

وقد نص اتفاق التعاون العسكري الاستراتيجي على السماح بقيام الطائرات الإسرائيلية برحلات تدريبية في الأجواء التركية، ومنحها الحق في استخدام المطارات التركية، والقيام بمناورات عسكرية مشتركة بين البلدين، وكذلك التعاون في مجال التصنيع الحربي، كما نص الاتفاق أيضا على قيام إسرائيل بصيانة وتحديث الطائرات التركية من طراز(F9)، وقيام تركيا بصيانة وتحديث الطائرات الإسرائيلية من طراز(F16).

وخلال الفترة ما بين عامي 1999-2001 شهدت العلاقات العسكرية بين البلدين تطوراً بارزاً كمياً ونوعياً، ومن الأدلة على ذلك قيام الصناعات الجوية الإسرائيلية عام 2000 بتصنيع قمر صناعي للتجسس من نوع "أفق" لحساب تركيا بمبلغ 274 مليون دولار، مقابل حصول تركيا على صور من قمر التجسس الإسرائيلي (أفق 3) لرصد تحركات حزب العمال الكردستاني المطالب بالانفصال المعارض في تركيا وشمال العراق.

وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 عقدت عدة مشاريع صناعية مشتركة بين إسرائيل وتركيا مثل، إنتاج مشترك لصواريخ "دلينه" البالستية الإسرائيلية، وتزويدها بصواريخ "جو– جو" من طراز 4 فايتون من إنتاج مصانع رافائيل الإسرائيلية، كما قدمت مقترحات إسرائيلية تتعلق بالتعاون المشترك في تحديث الطائرات التركية من طراز (أ ف5)، وإنتاج 2000 دبابة، وأنظمة للإنذار المبكر "فالكون" وكانت إسرائيل وتركيا قد اتفقتا على هذه المشاريع عام 1997، وتم تجديدها عام 2001.

وفي إطار هذا الاتفاق أبرمت العديد من الاتفاقيات الأخرى (التي يمتد سريانها حتى عام 2030) في مجال مكافحة الإرهاب، وتبادل الخبرات، وإصلاح الأنظمة المالية التركية، والاتصالات والبريد، وكذلك إمكانية إقامة منطقة تجارة اشتمل التعاون الأمني الاستخباري بين إسرائيل وتركيا على المجالات الرئيسية التالية:

  • التعاون في مجال ما يسمي "الحرب على الإرهاب" والذي يتمثل في الإسلام والأصولية.
  • متابعة التطورات العسكرية التي تحدث في منطقة الشرق الأوسط والدول العربية والإسلامية المجاورة لإسرائيل وتركيا، وخاصة إيران وسورية والعراق.
  • التعاون الأمني الاستخباري في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية في منطقة الشرق الأوسط.
  • التعاون في مجال تحليل البيانات والمعلومات العسكرية والاستخبارية التي تهم البلدين.

ناهيك عن المشاريع الاقتصادية الضخمة كمشروع جنوب شرق الأناضول "الغاب-GAP، الذي يعتبر ثامن أضخم مشروع في العالم، وأكثرها كلفة، وجدلاً في واقع الحياة السياسية والاقتصادية التركية، ليس بسبب بعده الاقتصادي الضخم وكلفته المرتفعة جداً، وإنما بسب بعده السياسي الإشكالي. فهذا المشروع سوف يمكّن تركيا في نهاية العام 2010 (أي عند انتهاء المشروع) من التحكّم كليةً بمياه نهري دجلة والفرات، على اعتبار أن لهذين النهرين أهمية وجودية بالنسبة لسورية والعراق. بالإضافة إلى تداعياته الجيوسياسية الأمنية كثيرة، وتتحدث أطراف تركية إسلامية عن التأثير والبعد الإسرائيلي في هذا المشروع باهتمام بالغ، ويذهب البعض منهم في تحليلاته بعيداً، إلى درجة اعتبار المشروع -بما وصل إليه من تدخل إسرائيلي-جزءاً من المخطط الإسرائيلي الكبير الذي يسعى لتحقيق دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل.

ويمتد مشروع جنوب شرق الأناضول في المنطقة التي تشمل محافظات: (اضي يمان-باطمان-ديار بكر-غازي عينتاب-لكس-ماردين-سيرت-شانلي أدرنة)، يحدّ هذه المنطقة من الجنوب سورية ومن الشرق والجنوب العراق وتبلغ مساحته 75,385 كم2 وتشكل نسبة 9.7% من مساحة تركيا، كما تشكل 20% من مجموع الأراضي الزراعية التي تبلغ مساحتها نحو 8.5 مليون هكتار، وهي السهول الواسعة في حوض الفرات ودجلة الأدنى، وتسمى هذه المنطقة بالهلال الخصيب.

إلى جانب الأهمية الاستراتيجية للمشروع، فإن نوعية المحاصيل التي ستنتج فيه تكسبه أهمية استراتيجية كبيرة، وأهم هذه المحاصيل:

  • الصناعات المعتمدة على القمح: طحين، معكرونة، برغل، شعرية.
  • الصناعات المعتمدة على القطن: غزول، مختلف أنواع الأنسجة، ألبسة.
  • صناعة زيوت الطعام-مصافي زيوت الطعام.
  • علف الحيوان.
  • صناعة الأدوية والأسمدة الزراعية.
  • صناعات المنتجات الحيوانية: فراء وجلود، منتجات اللحم، مشتقات الحليب، والصناعات الجلدية.
  • صناعة مواد البناء: مساكن مسبقة الصنع، بلوك وقرميد، أنابيب ري وصرف صحي.
  • صناعات أخرى، طباعة، مواد تغليف وتعبئة.

ناهيك عن التبادل التجاري الذي ضرب أرقاماً قياسية بين الدواتين، حيث وصل حجم التبادل التجاري بين الدولتين عام 2009 إلى 2.597 مليار دولار، ووصل في العام 2010 إلى 3.339 مليار دولار، بينما وصل عام 2011 إلى 4.448 مليار دولار، في حين بلغ عام 2012 إلى 4.039 مليار دولار، وارتفع عام 2013 ليصل إلى 5.067 مليار دولار، وبلغت ذروته عام 2014 ليصل إلى 5.700 مليار دولار.

إذاً، فان الحديث عن عودة العلاقات التركية الإسرائيلية إلى ما كانت عليه قبل حادثة سفينة مرمرة ما هو إلا كذبة تريد من خلالها تركيا أن تظهر للعرب عموماً، والفلسطينيين على وجه الخصوص أن عودة العلاقات مع إسرائيل مرهون بدفع عملية السلام وإنهاء حالة الصراع العربي-الإسرائيلي، وبرفع الحصار عن قطاع غزة، وتركيب محطة كهرباء عائمة في عرض البحر لتزويد القطاع بالكهرباء، مع العِلم أن الشرط التركي هذا تكرر أكثر من مرة وكأن العلاقات بين الدولتين مقطوعة بالفعل.

في يوم السبت الموافق 2 كانون الثاني/يناير 2016 جدد الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" هذا القول مشترطاً نصاً مكتوباً قبل التوقيع على أي اتفاق مع إسرائيل لضمان عدم حدوث أي انحراف فيه-في إشارة إلى حادثة سفينة مرمرة-وجدد حاجة بلاده لإرسال سفينة توفر التيار الكهربائي إلى قطاع غزة. من شأنها أن تخفف معاناة الفلسطينيين.

طبيعة الدور التركي وماهيته:

بتصوري، فان الدور التركي في المنطقة، وتحديداً تجاه عودة العلاقات مع إسرائيل، ورهنها برفع الحصار عن غزة، ما هي إلا وسيلة الهدف منها تعزيز ثقة حماس بتركيا، وربما تكون مقدمة لدخول تركيا في وساطة بين حماس وإسرائيل للتفاوض حول ملف الجنود المختطفين لدى جناحها المسلح "كتائب الشهيد عز الدين القسام". وإسرائيل كما عودتنا كدولة احتلال؛ لن ترفع الحصار دون مقابل، فهناك الكثير من القضايا ذات البعد الأمني كترسانة القسام العسكرية، وقضية والإنفاق-التي تعدها كتائب القسام وفصائل المقاومة في غزة في أي مواجهه قادمة مع إسرائيل-لن تكون خارج أي وساطة تركية محتملة مع حماس. فالدور التركي مقبول إسرائيلياً، ومحمود حمساوياً نظراً لطبيعة العلاقة المتجذرة بين تركيا وإسرائيل من ناحية والمدرسة الأيديولوجية الجامعة بين جذور حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا وحركة حماس التي تنتمي للنفس المدرسة. كما أن الدور التركي يمكن أن يكون محفزاً للدول العربية لان تحذو حذو تركيا في إقامة علاقات مع إسرائيل على اعتبار أن حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم واحد من الأحزاب ذات الأصول الإسلامية المعتدلة وهو ما يروق للتوجهات العربية في ظل ما بات يعرف بالربيع العربي، وإمكانية بناء تحالف عربي تركي لمواجهة الجماعات المتشددة كداعش ومثيلاتها.

تعقيباً على ما سبق قد تنجح تركيا-فيما لو تعاطت حركة حماس بإيجابية مع توجهاتها-في تخفيف حدة الحصار على غزة، وإنشاء محطة كهرباء عائمة في بحر غزة، لان من سيزودها بالوقود هو إسرائيل. لكن لن تكون عودة العلاقات التركية-الإسرائيلية (المتجذرة أصلاً) شرطاً في رفع الحصار عن غزة، لان تركيا بذلك ستكون قد حكمت على نفسها بالانتحار سياسياً، ويبدو أنها تدرك ذلك، لأن الدور التركي في أفضل أحواله لن يغرد خارج السرب الأمريكي-الإسرائيلي (مع امتنان الدولتين لهذا الدور). فحاجة تركيا لإسرائيل تفوق حاجة الأخيرة لها، لا سيما أن تركيا تدرك مدى قدرة إسرائيل على تحريت وتفعيل ملف الأقليات خصوصاً أكراد العراق التي تربطهم علاقات أمنية وعسكرية وثيقة بإسرائيل، ناهيك عن حجم الاستفادة التركية من المشاريع المشتركة مع إسرائيل في المجالات الاقتصادية والعسكرية، والإلكترونية ذات الأغراض العسكرية، وغيرها من الملفات.