عن الحرب الغادرة والمغدورة!

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

 

بتنا نعرف تمام المعرفة كيف بدأت هذه الحرب وكيف انتهت وبتنا نعرف، أيضاً، لماذا بدأت ولماذا انتهت إلى ما انتهت إليه. أما الذي نحن بحاجةٍ ماسّة وملحّة لمعرفته: هل كان يجب أن تبدأ كما بدأت، وهل كان بالضرورة أن تنتهي إلى ما انتهت إليه؟
للإجابة عن السؤال الأخير نحتاج إلى الرجوع والمراجعة لمنهج ومنطق ما تسمّى فلسفة واستراتيجية "المقاومة" من ناحية، وإلى قدرة هذا النهج وهذه الاستراتيجية على أن تشكل في الظروف الفلسطينية الخاصة والملموسة خياراً فاعلاً وفعالاً، ثابتاً ومستداماً، وقادراً على إحداث التغيّر والتغيير في إعادة ترميم وبناء الحالة الوطنية من جهةٍ أخرى.
وتفادياً لأي لُبسٍ أو التباسٍ، أو خلطٍ أو اختلاطٍ للمفاهيم، فنحن هنا نتحدث ونقصد نهج المقاومة المحدد بأشكال معيّنة، وبمحاور معيّنة، و"بتحالفات" معيّنة، وبارتباطات معيّنة لكي لا ينتهي الحديث والقصد عند القدرات المعيّنة، وصولاً إلى الأهداف المعيّنة.
ودعونا نبدأ من حيث كنّا ـ في المقال السابق ـ قد أشرنا إلى ضرورة تحديد فيما إذا كانت هذه الحرب بالذات قد أفضت إلى نصرٍ أو هزيمة، أو إلى نجاحٍ أو فشلٍ وإخفاق!
هذه الحرب لم تكتمل، ولم تستكمل على الجانبين، قطعت وتوقفت عند منتصف الطريق، أرادت إسرائيل أن تنتهي عند الحدود التي انتهت عندها، ولم تتمكن "الجهاد" لأسبابٍ كثيرة إلّا القبول بهذا القدر فيها!
بهذا المعنى، فهي معركة أو جولة أو محطة أكثر منها حرباً، ولا يصلح ولا ينطبق عليها، بل ولا يستنتج منها مؤشرات كافية للحكم على موازنة أو معادلة النصر أو الهزيمة، وأقصى ما يستدل منها هو موازنة أو معادلة النجاح أو الفشل.
وبما أن هذه الحرب هي معركة أو جولة، وبما أنها قطعت ولم تُستكمل، وبما أنها توقفت بسعيٍ أو رغبةٍ من أحد أطرافها، وبعدم "قدرة" الطرف الآخر على المضيّ قدماً بها فليس من نجح هنا أو هناك يكون قد انتصر، وليس من أخفق في هذا الجانب أو ذاك يكون قد هُزم!
وبهذا المعنى تحديداً، فقد نجحت إسرائيل في مجال الاستفراد بالقطاع، ونجحت أكثر في إحداث درجةٍ غير مسبوقة من الفرقة بين حركة حماس من جهة، ومعظم فصائل المقاومة الأخرى من جهةٍ أخرى.
وبحدود الأهداف ــ وليس بنك الأهداف ــ التي أرادتها إسرائيل على الصعيد الانتخابي، وعلى صعيد الصورة والانطباع الذي عملت على إظهارهما، وعلى صعيد "الفصل" بين الساحات، أيضاً، فقد استطاعت أن تنجح.
كما نجحت إسرائيل في إحداث نجاحٍ كبيرٍ في عنصر المباغتة، فقد موّهت بصورة محكمة لضرباتها التي سمتها الضربات الوقائية.
ولكنها لم تنتصر، وكل "نجاحاتها" مؤقتة، والجولة القادمة على جدول الأعمال، أو يمكن أن توضع عليه في أيّ لحظة.
أما "الجهاد" فقد صمدت في ظروفٍ صعبة، وظهرت أمام المجتمع الإسرائيلي بأنها قوية إلى درجة أن إسرائيل لم ترغب، وربما خشيت من استمرار المعركة معها!
وبدت "الجهاد" قوية ومتماسكة وهي تقاتل وحدها، وهذا الأمر بحدّ ذاته يبين هوان إسرائيل وضعفها لأن "معاركها" كانت بحجم دول مجتمعة، ثم أصبحت بحجم قوى مجتمعة، وانتهت إلى حروب ومعارك ضد حزبٍ واحدٍ أو فصيلٍ واحدٍ لم تعد قادرة على تحقيق نصر حقيقي عليه.
صحيح أن "الجهاد" لم تنتصر ولكنها لم تُهزم أبداً.
السؤال المؤرّق هنا هو: هل كانت إسرائيل ستُقدم على هذه الحرب ــ المعركة وهي غير واثقة من عدم تدخّل حركة حماس! وهل يمكن أن تكون إسرائيل قد "تأكدت" من ذلك قبل الإقدام عليها؟
عنصر المباغتة المعدّة بكل عناية حوّل هذه المعركة أو الحرب إلى حربٍ غادرة، وعنصر تخلّي "حماس" عن "الجهاد" فيها حوّلها إلى حربٍ مغدورة.
دعونا نتصور ــ ولو للحظة "حالمة" واحدة ــ أن تجازف إسرائيل بحربٍ انتخابية في الجوهر والأساس، وأن يترك مصير هذه الحرب مفتوحاً على عدة أسابيع، ومفتوحاً على مشاركة "حماس" بقوة وجدية، ومفتوحاً على إعادة توحيد الساحات، ومفتوحاً على الانتصار الشعبي العربي والدولي للدفاع عن القطاع وعن كل الشعب الفلسطيني، فماذا يمكن أن تكون عليه النتيجة لحرب كهذه؟
انطلاقاً من هذا التصور بالذات أبداً في رؤية وتحليل كامل فلسفة المقاومة في قطاع غزة وكامل نهجها والاستراتيجية القائمة عليها.
المدخل لمعالجة كهذه هو مفهوم الحرب المغدورة!
فسواء كان تخلّي "حماس" عن "الجهاد" هو نتائج صفقة (ما) أو كان "لتقديرات" "حماس" حول تدمير ما تبقّى من بقايا في القطاع، فإن النتائج واحدة، وهي أن "حماس" لها حساباتها الخاصة تتعلق بقدرة إسرائيل على تدمير ما تبّقى فيه، وما "لها"، أي ما لـ"حماس" من سلطة في وعلى القطاع، أو حتى ما لديها من قوةٍ عسكريةٍ وصاروخية.
في هذه الحالة، وفي ظل تقديرات كهذه، ومع افتراض أنها صحيحة وواقعية، الأمر الذي يقتضي "الحكمة" والتروّي والتعقّل! فإن هذا بالذات هو سبب إضافي للمزيد من هذه "الحكمة" مستقبلاً، وللمزيد من التروّي والتعقّل لاحقاً.
ولهذا فإن "المقاومة" كمشروعٍ ونهجٍ وكاستراتيجية أصبحت رهينة للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية من جهة، ولمشروع المحافظة على سلطة "حماس" من جهةٍ أخرى، أملاً في أن تفضي "التفاهمات" بين "حماس" وإسرائيل إلى "تحسين" هذه الأوضاع، وإلى تعزيز وجود هذه السلطة!، أليس كذلك؟
لست متأكداً تماماً من صحة تقديرات "حماس" حول تدمير القطاع لأن إسرائيل برأيي لم يكن بمقدورها المجازفة بحربٍ كبيرة وطويلة لولا أنها أعدّت وجهّزت كل الأمور بحيث ألا تصل إلى درجة كهذه من المجازفة، وبالتالي فإن تلك التقديرات افتراضية أساساً.
باختصار، فإن مشروع "المقاومة" القائم على استراتيجية "الصواريخ" بات مرهوناً بالظروف المزرية في القطاع، وبأولويات "حماس" للحفاظ على سلطتها في القطاع مهما كلف الثمن، وبات مرهوناً "بحرية" إسرائيل المطلقة بضرب القطاع بالشكل والقدر الذي تحدده وتخطط له، طالما أن حكوماتها قد وصلت إلى ما وصلت إليه من عنصرية وإجرام، وطالما أن الولايات المتحدة تعطيها الغطاء الكامل، وطالما أن العرب أصبحوا يقايضون دم غزة بالشجب والاستنكار وبعبارات تتراوح بين "الشديدة" والمشددة. وستصبح هذه الاستراتيجية في وضعٍ أكثر صعوبة، وستدخل في مأزق كبير إذا ما تم تحسين أوضاع القطاع. بل وأن تحويل "قدرات" المقاومة الصاروخية إلى قدراتٍ دفاعية بات يخضع لمعادلة السلطة، والدليل الأخير لا يحتاج إلى المزيد من الشرح والتوضيح. بل إن الأسوأ من هذا كله أن "السلطة" في غزة (سلطة "حماس") تتحكم بالقطاع كله، وهي التي تحدد، ويعود لها وحدها، وتقديراتها هي، وليس غيرها كل صغيرة، وكبيرة، ما يعمّق من مأزق كل مشروع يخرج عن القبضة الحديدية لـ"حماس".
وفي الضفة كذلك، فإن مشروع "المقاومة" المسلحة تحديداً محظور وملاحق، والمسموح به هو المقاومة الشعبية فقط وضمن حدود معينة فقط، مع فارق أن جزءاً كبيراً من الأعمال المسلحة يقع خارج نطاق السلطة الوطنية في الضفة، وليس للسلطة عليها السيطرة الكاملة، ولا حتى الجزئية أحياناً.
هذا يعيدنا إلى أن إعادة بناء وتوحيد الحالة الوطنية هو المدخل الوحيد القادر على بناء استراتيجية مقاومة حقيقية يكون فيها، وفي إطارها القرار بالشكل المناسب للمواجهة مع الاحتلال هو قرار وطني موحّد، ومستقل وقادر بحكم عوامل الوحدة، وعوامل المنطلقات الوطنية والأهداف الوطنية على توحيد الساحات، وتوحيد وحشد الدعم العربي والدولي، وقادر على زجّ كل الطاقات الوطنية في مواجهة شاملة، سياسية ودبلوماسية، وشعبية وكفاحية بالشكل الذي تمليه ظروف اللحظة ومتطلباتها.
لقد آن الأوان لإخراج مفهوم المقاومة من مشاريع الخصخصة السياسية، ومن مشاريع "المقاولات" الحزبية، وتحرير هذا المفهوم من سطوة السلطات، من كل أنواع السلطات، وتحويل مفهوم المقاومة إلى حربٍ وطنية موحدّة شاملة، وهنا لا بدّ من عودة.