كتاب جديد لآدم راز وثّق رسائل موجهة لبن غوريون عُثر عليها في أرشيفَي الدولة والجيش

"المأساة الشخصية لسامي سعادة": فصول جديدة من المعاناة الفلسطينية زمن النكبة (1-2)

حجم الخط

بقلم: شيرين فلاح صعب



في 11 تموز 1948 ظهر جنود تابعون للجيش الإسرائيلي في بيت سامي سعادة في شارع النبي الياس في البلدة التحتا في حيفا، وأجبروه على الانتقال فوراً الى شقة اخرى في شارع عباس. حدث هذا في أعقاب الأمر الذي أصدره رئيس الحكومة في حينه، دافيد بن غوريون، وهو تجميع جميع الفلسطينيين الذين بقوا في المدينة بعد احتلالها على يد قوات الجيش الإسرائيلي في وادي النسناس وشارع عباس القريب منه. من غير الواضح ما الذي مرّ على سعادة في السنة الأولى لاقامة دولة إسرائيل. من المرجح أنه، مثل الـ 3500 شخص آخر الذين بقوا في المدينة، شهد الخوف وعدم اليقين والغربة في أرضه وبدون قيادة سياسية تمثله. ولكن في 26 حزيران 1949 أرسل رسالة لبن غوريون وصف فيها الطرد المؤلم من بيته.
"أنا الموقع أدناه، سامي سعادة، الموظف في شركة النفط العراقية في حيفا. كنت أعيش في شقة في السنوات الاخيرة توجد في شارع مار الياس رقم 124، تتكون من اربع غرف كبيرة ومطبخ وحمام وثلاث شرفات. في هذه الشقة وجدت عائلتي راحتها. في 11 تموز 1948 جاءت السلطات العسكرية وقامت بنقلي الى البيت رقم 29 في شارع عباس. وسمحت لي بالسكن في الطابق العلوي، الذي من أجل الوصول اليه يجب عليّ صعود 84 درجة. امتثلتُ للأمر العسكري برضى رغم الصعوبات الكثيرة التي توجد فيه، سواء بالنسبة لي أو لعائلتي. أنا هنا أحتفظ برخصة رسمية من الجيش، تعطيني الحق في السكن في الشقة المذكورة في البيت رقم 29 والتي تتكون من اربع غرف ومطبخ وحمام".
قبل الاحتلال الإسرائيلي تقاسم سعادة، وهو من مواليد 1910، الشقة التي توجد في شارع النبي الياس مع والدته وزوجته واولاده الاربعة. قبل فترة من وصول معارك "حرب الاستقلال" الى حيفا في نيسان 1948 غادر ابناء العائلة المدينة وانتقلوا الى لبنان. حسب قوانين الدولة الجديدة تم الإعلان عنهم غائبين وتم تأميم ممتلكاتهم. ظهور الضيوف اليهود غير المدعوين في شقته، كما وصف سعادة في رسالته لبن غوريون، كان فقط أحد المشاهد في مسلسل غزوات الجنود وابناء عائلاتهم الى بيوت السكان الفلسطينيين، حتى الذين لم يهربوا وبقوا في حيفا. استمرت هذه الأحداث أشهرا كثيرة بعد احتلال المدينة.
في الشقة الجديدة في شارع عباس، لم يجد سعادة الراحة أو التركة. "في 18/1/1949 رجعت الى البيت في العاشرة ليلا بعد أن قضيت الامسية مع بعض المعارف"، قال في الرسالة. "وجدت في البيت عائلة غريبة تتكون من رجل باسم ممان وزوجته وصهره. ودخلوا الى البيت بعد أن قاموا بفتحه بوسائل خاصة، واحتلوا إحدى الغرف بعد إفراغ الأثاث الذي كان داخلها. بدأ نقاش بيني وبينهم استمر حتى منتصف الليل، وانتهى بتفاهم كامل على أنهم سيغادرون البيت في الصباح. لذلك، لم أقم باستدعاء الشرطة. وقد تعاملت معهم بشكل جيد عندما وعدوا بأنهم لن يبقوا في الشقة أبداً". يبدو أن السكان الجدد لم ينفذوا وعدهم في هذا الاتفاق. واصل سعادة وكتب بأنه عندما وصل الى قسم "أملاك الغائبين" من أجل استكمال عقد الإيجار للشقة الجديدة تفاجأ بأنه يوجد هناك أحد الغزاة، وهو إدوارد ممان، الذي جاء الى هناك قبله من اجل ترتيب عقد إيجار لإحدى الغرف. "عندما أردت الدخول وجدت أن السيد ممان سبقني الى القسم بمرافقة أحد ضباط الجيش، الذي جاء من اجل حمايته. بعد لقائهم مع المدير لمدة عشرين دقيقة تم استدعائي للدخول، وكان معي أحد موظفي شركة النفط العراقية، ماكس سولمون، الذي تحدث نيابة عني لأنني لم أكن أتحدث العبرية. بعد بضع دقائق توجه لي السيد ماكس سولمون وقال بالانجليزية إن "قسم أملاك الغائبين وعد وتعهد بإعطائك عقد إيجار للطابق بكامله. وتعهد بأن السيد ممان سيخلي البيت فقط عند عودة عائلتي الى حيفا، وأنه سيعيش مع عائلته في غرفة واحدة فقط، وأنه سيكون عندي ضيفاً وسيوافق على الشروط الخاصة مقابل وعد مني باستقباله في غرفة واحدة. في الاشهر التالية لاحتلال السيد ممان لغرفة في بيتي جاء الى حيفا والداه وعاشوا معه في الغرفة ذاتها. في الوقت الذي أملت فيه بأن السيد ممان سيحافظ على وعده لي فان الامور تعقدت. وكان والده يضايقني في كل مناسبة وطلب التوسع في البيت على حسابي".
لم تنته قصة سعادة بالاختلاف في الآراء مع ابناء عائلة ممان. وقد وصف في الرسالة غزواً آخر لعائلة يهودية، أدى في هذه المرة الى طرده من البيت. "في صباح 7 نيسان 1949 اقتحم فصيل عسكري بيوت العرب في شارع عباس. وبعد احتلالها تم رمي سكانها الى الشارع. في هذه الأثناء وجد السيد ممان ووالده أرضية خصبة لنشاطاتهم ضدي. بوساطة جنود الجيش والشرطة العسكرية والشرطة المدنية قاموا باستدعاء ضابط برتبة كابتن هو تشيتشيك من أجل اقتحام شقتي. حيث انقض علي بالضرب وقام بطردي من البيت. توجهت الى السلطات ولكنها لم تفعل أي شيء لي. وقام المحتلون بطردي وجمعوا كل أثاث بيتي في غرفة واحدة".
أصبح سامي سعادة بالفعل شخصاً ليس له بيت. "رغم أنه يوجد في يدي عقد إيجار وأقوم بدفع الدفعات بالكامل مثلما دفعت ايضا دفعات السكن، في الوقت الذي يتمتع فيه آخرون بما فعلوه خلافاً للقانون". العائلتان، ممان وتشيشيك، لم تكتفيا بطرده من الشقة. في الرسالة ادعى بأنهم قاموا بتغيير قفل الباب ومنعوه من الوصول الى اغراضه التي بقيت في الداخل.


سرقة الممتلكات
الرسائل التي أرسلها سعادة لبن غوريون موثقة في كتاب المؤرخ آدم راز "المأساة الشخصية لسامي سعادة" (من إصدار دار الكرمل في القدس). وقد تم العثور عليها في أرشيف الدولة وأرشيف الجيش وهي تسلط الضوء على المأساة التي عاشها عشرات آلاف الفلسطينيين عند إقامة دولة إسرائيل. "الفلسطينيون الذين بقوا في البلاد لم يكن لهم أي صوت"، قال راز، وهو من معهد عكفوت لأبحاث النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. "لقد بقوا في البلاد التي أصبحت الآن "إسرائيل"، وأصبحوا فيها مواطنين من الدرجة الثامنة. ليس هذا فقط، بل كل البنية الاجتماعية والسياسية الفلسطينية تفككت الى شظايا، وأصبحوا لاجئين في بلادهم وفي وطنهم، ويخضعون للسلطات اليهودية، الامر الذي يفسر اليأس الذي يوجد في رسائل سعادة".
هذا هو الكتاب الثاني لراز في هذا الموضوع بعد كتاب "نهب الممتلكات العربية في حرب الاستقلال" (إصدار الكرمل) الذي صدر قبل بضع سنوات. "اذا كنت وصفت في ذلك الكتاب توجهاً وسياسة واسعة، فإنه في الكتاب عن سعادة أردت طرح وجهاً شخصياً أكثر"، قال. "هناك فرق بين أن تكتب بأنهم سرقوا حيفا وبين وصف القصة من الداخل، وصف المخاوف والأفكار والصعوبات. هذا هو الفرق بين الإحصاء والحالة الخاصة".
هذا ليس الفرق الوحيد. كتاب "المأساة الشخصية لسامي سعادة" كتب كمسرحية، إضافة الى فصلين تاريخيين. "طوال الطريق كان من الواضح أن قصة سعادة لا تناسب مقالاً أو كتاب تاريخ، لأنه يوجد الكثير جداً من الثقوب في الحبكة"، قال راز. "كيف ظهرت الحياة في بيت سعادة بعد اقتحام العائلات اليهودية؟ هل قام بإعداد القهوة لنفسه أم أنه خاف من فعل ذلك؟ من الذي قام بتنظيف المطبخ؟ هل تقاسم معهم الثلاجة؟ الاسئلة كثيرة ولكن لا توجد اجابات عندي عليها".
قال راز إنه رغم أنه لم ينجح في الحصول على جميع الرسائل التي شرح فيها سعادة وضعه الشخصي المعقد، إلا أنه نجح في جمع ما يكفي من المواد من الأرشيفات من اجل أن يصف بتفصيل غير عادي ما حدث معه. "محاولات الوصول الى ملفات المحكمة بعد أن قرر أن يقدم دعوى ضد الغزاة في هيئتين مختلفتين للقضاء، لم تثمر. لم تعد الملفات موجودة في الأرشيف. لم يقم بن غوريون بالرد على الرسائل التي أرسلت اليه، لكن وزير الأقليات، بخور شالوم شتريت، وهو الوزير اليهودي الذي فعل الكثير من اجل الفلسطينيين في تلك الفترة وعارض سياسة الطرد لبن غوريون، حاول أن يساعده. ولكن هذا لم ينجح في نهاية المطاف".
ما الذي دفع سامي سعادة الى ارسال رسائل لبن غوريون؟ هل اعتقد أن رئيس الحكومة الإسرائيلية سيظهر التعاطف مع مأساته الشخصية؟ "رغم نكبة الشعب الفلسطيني والتغيير المؤسساتي العميق، إلا أن هناك أطراً اجتماعية وسياسية استمرت في الوجود في المجتمع الفلسطيني، ومن بينها أسلوب التوجه الى المؤسسة بطلبات عن طريق الرسائل"، قالت الدكتورة لينا دلاشا، وهي مؤرخة في جامعة هومبولادت في كاليفورنيا. وقد حققت ايضا في وثائق في أرشيف الدولة. "في 1926 أعطت السلطات البريطانية المواطنة لفلسطينيين في فلسطين. ورغم أنهم كانوا يدركون قيود المواطنة الكولونيالية، إلا أنهم تعودوا على التوجه الى المؤسسة البريطانية والمطالبة بحقوقهم كمواطنين. هكذا فان التوجه الى المؤسسة الإسرائيلية هو استمرارية للفترة التي سبقت قيام الدولة".
الأمر المؤكد هو أن رسائل سعادة لبن غوريون تفتح ثغرة لمعرفة المعاناة الشخصية للفلسطينيين ومواجهتهم للمؤسسة اليهودية التي سيطرت للتو على البلاد. وصف راز في الكتاب النضال القانوني الذي حاول سعادة ادارته امام السلطات الإسرائيلية من اجل تحقيق العدالة التي هو حسب رأيه يستحقها. على سبيل المثال في 13 تموز 1949 قدم دعوى مدنية ضد ممان وتشيشيك على غزو شقته. ولكن الجلسة تم تأجيلها الى كانون الثاني 1950. في تلك الفترة استمر في إرسال الرسائل لبن غوريون، التي لم يتم الرد عليها كما قلنا، واضطر الى البقاء خارج شقته المحتلة. "بربكم، اخبروني الى متى سيستمر هذا الاضطهاد؟"، كتب في إحدى الرسائل بتاريخ 28 أيلول 1949. "جميع الأوراق التي بحوزتي تثبت حقي. أتوجه بصفتي مواطناً في الدولة الى السلطات بنداء استغاثة: انقذوني! لم أقم بالاعتداء على أي أحد ولم أخالف القانون. لقد قاموا برميي بسرعة الى الشارع، وحتى الآن هم يستخفون بالقوانين وبتعليمات الحكومة ويتسببون بأضرار مالية كبيرة لي، في الوقت الذي أنا بحاجة فيه الى كل أغورة".

عن "هآرتس"