المضاعفات الخطيرة التي أفرزتها المتغيرات الدولية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة على مفهوم السيادة، تجلّت بوضوح خاصة في العقدين الأخيرين، بفقدان دول عديدة القدرة على الحفاظ على النظام العام والاستقرار في الداخل، وحماية سيادة الدولة ووحدتها الترابية من التهديدات والأطماع الخارجية. وجدلية انعدام التناسق بين النظام العولمي الجديد وأزمة السيادة الوطنية للدول، حصرَ الدولة القُطرية ضمن حدود مشاكلها الداخلية الضيقة، التي لا تستطيع الخروج منها. وهو العامل الذي عزّز قدرات كيان الاحتلال على الاستفراد بدولة فلسطين التاريخية، والإمعان في التوسع داخل حدودها، وعلى حساب دول الجوار الفلسطيني كذلك. وما تفعله إسرائيل في كل جولة حرب على قطاع غزة المحاصر منذ سنوات، هو في عمقه محاولة لضرب آخر معاقل المقاومة، وتشتيت صفها، ووحدة ساحاتها النضالية، بغرض تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي.
إسرائيل هي وليدة أمريكا، وتعلم جيدا أنّ منطق القوة والمعادلات الاستراتيجية وتوازن الردع هو الكفيل بتحجيم طموحاتها التوسعية. أمريكا اصطدمت بروسيا والصين، ومنطقها الامبراطوري ينكفئ في كل مرة، وإسرائيل كذلك لا تفهم إلا لغة القوة. أما التخاذل ومقولات السلام مقابل الاعتراف بكيان احتلال، فقد أوصل إلى إخضاع المنطقة بكاملها تقريبا للمطالب الأمريكية، ولطموحات إسرائيل في التوسع، وفرض سياسة الأمر الواقع بكل أشكال القمع والاستيطان والإجرام الذي يشاهده العالم ولا يحرّك ساكنا.
ومع الأسف، اقتنعت بعض الدول العربية بضرورة إجراء تغييرات على موقفها من تل أبيب، ومن ثم تبنّي هذا الكيان، ونسج تحالفات معه حتى يصبح عضوا من أعضاء الأسرة الإقليمية، في نوع من تبييض التاريخ المشؤوم » لدولة «قامت على أنقاض الشعب الفلسطيني. ومخطئ من يعتقد أنّ إسرائيل تبحث عن تحالفات عربية، لأنّها فقدت الدعم الأمريكي، ولم تعد تثق في تواصله وثباته المعهود. فأمريكا ملتزمة تماما بدعم كيان الاحتلال، وأوّل ما تنطق به في كل مواجهة بين الاحتلال والمقاومة هو أنّها »تدعم حق إسرائيل المشروع في الدفاع عن نفسها« وتُدين صواريخ المقاومة، مثلها مثل دول الاتحاد الأوروبي وبياناتها الممجوجة. ومن الجيد إدراك أنّه لولا وجود أصوات إسرائيلية ضاغطة خارج أمريكا وداخلها، ولولا وجود «إيباك» بشكل خاص، لكانت السياسة الأمريكية المتعلقة بالشرق الأوسط مختلفة نوعا ما. وأقلّها أن تكون متوافقة مع مصالح الولايات المتحدة القومية، دون الرضوخ المفرط لرغبات تل أبيب، التي تجرّها باتجاه مصالحها التوسعية والعدائية في الإقليم. وما كنّا لنصل إلى استبدال العدوّ والتحالف معه، ونحقق مقولات مؤسّسي هذا الكيان من أمثال هرتزل، الذي يتردّد صدى ما كتبه في يومياته على واقع اليوم، ضمن مشروع التقارب والأسرلة عندما قال: «يجب قيام كومنولث شرق أوسطي يكون لدولة اليهود فيه شأن قيادي فعال، ودور اقتصادي، وتكون المركز لجلب الاستثمارات والبحث العلمي والخبرة الفنية». وفعلا نشهد اليوم علاقات تبادل من هذا النوع، وفتح للسفارات، وتحالفات أمنية بين حكومات عربية وكيان الاحتلال الإسرائيلي.
معركة استقلال الفلسطينيين صعبة، ما دام العالم لا يضع حدا لإفلات المحتل من العقاب، وهو يحظى بدعم قوى عالمية، مع تواطؤ إقليمي وعربي
وبالمحصلة، فلسطين هي بشكل ما أسيرة مسارات تخاذل وفكر سياسي عربي مهزوم، بدأوا بفرض الاستعمار الغربي على كل الدول العربية، وتصفية الامبراطورية العثمانية، وتقسيم الوطن العربي إلى دويلات مفعمة بكل أسباب التوتر وعدم الاستقرار، وافتعال الصراعات العرقية والطائفية وأزمات الحدود. وهم يمضون في نسخ معدلة من سايكس بيكو، من حاصل تدمير العراق وليبيا وسوريا واليمن. ويُراد لنهجهم التخريبي أن يشمل إيران أيضا. هو مشروع استعماري متواصل، استخدمت فيه ذرائع كاذبة، من قبيل نشر الديمقراطية، وتكريس حقوق الإنسان، في محاولة لإخفاء أن مصالح بعض القوى هي التي دفعتها إلى التدخل العسكري في أكثر من دولة في المنطقة، وهي ترجمة لتعبيرات الهيمنة التي تُتيح لأمريكا السيطرة المباشرة على أكبر احتياطات النفط، وتُكسِب اسرائيل مقوّمات التفوق والقوّة بشكل دائم. وتحدّ من تنامي توازن الردع الذي يحدثه محور المقاومة. هذا المحور الذي أرادوا كسره عبر تدمير سوريا، همزة الوصل بين إيران وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين، التي تقاوم المحتل الصهيوني. ومازالت شركات النفط الجشعة التابعة لهذه الدول تستثمر في الأزمات، وتحقق الأرباح الطائلة على حساب الشعوب، التي تعاني الجوع والفقر والتهميش. ونتيجة عقود لسياسات من هذا النوع، وبفعل التمسك المقيت للبلدان التـي سعت لتطبيق سياسات خارجية ليبرالية، مثل الولايات المتحدة، انتهى الأمر إلى جعل العالم أقل سلما، منذ أن أفرز انهيار الإمبراطورية السوفييتية، وتآكل منطقها المعياري القائم على الأيديولوجية الماركسية اللينينية، واقعا عالميا جديدا قائما على هيمنة النسق الأيديولوجي النيوليبرالي. والأخطر من هذا أن هذه الدول تخاطر بتقويض الليبرالية في الداخل، وسيأتي إخفاقها الحتمي بتكاليف ضخمة. وقد بدأت ملامح تجلّيه في ما يحدث في الداخل الأمريكي، منذ غزوة الكابيتول التي دفع إليها الرئيس الأسبق ترامب، والذي يرغب في العودة إلى البيت الأبيض، والمسارات المتعاقبة مازالت تكشف عن مشاكل بنيوية خطيرة داخل المجتمع والدولة. واستماتتها في الدفاع عن نظام عالمي فاشل كرّسته بالقوة، وواقعية المواجهة الجيوسياسية المتعلّقة بالتّحجيم من ناحية والضغط العسكري والاقتصادي من ناحية أخرى. يجعل أمريكا وحلفائها الأوروبيين يدفعون أثمانا باهظة اليوم، نتيجة العقوبات التي فرضوها على روسيا والصين وغيرهما، والتي فاقمت أزمات الطاقة والغذاء والتضخم. وهي بالتأكيد تؤشر إلى اضطرابات اجتماعية، لم تعد مقتصرة على الدول الفقيرة والنامية، التي دأبوا على نهبها وجعلها مسرحا للتفقير، ولحوادث الإرهاب والعدوان وإطاحة الأنظمة والحروب الاقتصادية، وغيرها من الجرائم التي أرعبت حشودا واسعة من البشر.
غطرسة إمبراطورية الشر، أدت إلى هزيمتها في أفغانستان والعراق، وخروجها بشكل مذل، وغرورها الامبراطوري الذي قُبِر في مقبرة الغزاة كابل، كشف تناقضاتها وتخبطها، بين دفاعها عن القيم والمثل التي تدعيها، منذ أن استفردت بالنظام العالمي، وإخلالها بالتزاماتها وتعهداتها الدولية التي تنتهكها في كل مرة. ناهيك من إرادتها الخالصة في تخليص المنطقة من الديمقراطيين، ودعمها للديكتاتوريات العسكرية والملكية، لكي ترضي إسرائيل وأصدقائها في المنطقة. وفي الأثناء، لغة النفاق السياسي والازدواجية لم تتغيّر في الأوساط الغربية، ومازالوا يدّعون بأنّ الديمقراطية هي الرسالة التي يحملونها، وأنّ ما ينسجونه من انفتاح دبلوماسي، يراكم ذلك الربط بين الديمقراطية والسلام، ولكنّه في الحقيقة، يعزّز الأوهام التي زرعوها منذ غزو العراق بإعادة صياغة المجتمعات، وضبط تفاعلاتها، واحتواء النظام الرسمي. وفي الداخل الفلسطيني مازال الشعور المخيب للآمال بالنسبة لمعظم الفلسطينيين يتزايد، في علاقة بتخاذل سلطتهم عبر التنسيق الأمني اللامتناهي منذ اتفاقية أوسلو، تلك الوثيقة التي استبدلت الحقوق الوطنية الفلسطينية بسلطة تحت الاحتلال، ظلت رهينة التزامات مكبّلة دون سلطة على الأرض، ورهينة مفاوضات بلا أساس، نتيجتها تهميش فلسطينيي الداخل والشتات، ومراكمة الخلاف والانقسام، وفقدان الأرض بفعل سياسة الاستيطان، والتخلّي عن الأسرى في سجون الاحتلال، واستجداء الأمريكي »الوسيط«، وانتظار نتيجة انتخابات، ربما تأتي برئيس يغير خط التعامل مع إسرائيل لصالح فلسطين. وهي أوهام خارج سياق التاريخ ونهج الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي تتفنّن في إدارة الأزمة، وتركها دون حلّ نهائي.
سيادة جميع الدول، واستقلالها السياسي، وسلامتها الإقليمية، ووحدتها، وأمنها، فضلا عن الهوية الوطنية، والتراث الثقافي لسكانها، هي من المبادئ الأساسية التي يقرّها ميثاق الأمم المتحدة. وإذ تؤكد مرجعيات الشرعية الدولية، وفقاً للميثاق، على حق الشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية، أو الاحتلال الأجنبي، أو النظم العنصرية، في تقرير المصير والاستقلال، فليس لفلسطين سوى المقاومة بالأشكال المشروعة كافة لاسترداد الجغرافيا المقسّمة، والتصدي لمحاولات محو تاريخها ووجودها ومعناها. هي معركة استقلال صعبة، ما دام العالم لا يضع حدا لإفلات المحتل من العقاب، وهو يحظى بدعم قوى عالمية، مع تواطؤ إقليمي وعربي. مع ذلك لا بدّ للظلم أن ينجلي.
كاتب تونسي