قبل فترة قصيرة، أعلن قيادي في حركة "حماس" أن العلاقات بين الحركة وسورية في طريق عودتها بالكامل إلى ما كانت عليه، بعد قطيعة استمرت عشرة أعوام. مؤكدا أن قرار استئناف العلاقة مع سورية اتخذ في وقت سابق وبالإجماع.
وقبل دعوة "حماس" هذه، كانت الحركة قد حسّنت علاقتها مع حزب الله، بعد لقاء إسماعيل هنية مع السيد حسن نصر الله، ثم حسّنتها مع إيران، حتى تطورت هذه العلاقة في العام 2019 إلى علاقة كاملة، وتوطدت بعد زيارة وفد رفيع من "حماس" إلى طهران.
هل أتت دعوة الحركة بعد فشل رهانها على سقوط النظام؟ وإدراكها أن الدولة السورية بدأت تتعافى؟ أم بسبب حاجتها للعمق العربي والسوري، خاصة بعد جملة من التغيرات الإقليمية العميقة؟ هل هي استفاقة واعتراف بالخطأ؟ للإجابة، لنعد قليلا إلى الوراء.
بعد خسارتها سورية، تضررت علاقة حماس مع إيران، حتى وصلت حد القطيعة.. فانتقلت قيادة حماس إلى قطر، التي صارت بنظرهم "الداعم الأول لفلسطين"، بل صارت "دولة مقاومة".. وبعد انقلاب السعودية على الإخوان المسلمين، تدهورت علاقاتها مع حماس.. ومع ذلك حاولت حماس الإبقاء على علاقتها بالرياض، في نفس الوقت الذي بدأت تحاول ترميم علاقتها بطهران.. مع تمتين تحالفها مع تركيا.. وبعد خسارة الإخوان لمصر، حاولت حماس الإبقاء على علاقة طيبة مع النظام، حتى أنها رفعت صورة السيسي في شوارع غزة.. ولا شك في أنّ الجمع بين هذه التناقضات أمر بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلا..
طبعا، من حق حماس البحث عن حليف إقليمي يوفر لها الدعم المالي والعسكري والسياسي.. وصحيح أنه في السياسة لا توجد علاقات دائمة، بل توجد مصالح دائمة، وعلى كل طرف البحث عن مصالحه.. لكن التحالفات إذا لم تكن مبنية على الأخلاق والمبادئ تغدو انتهازية، وكما أن التحالف يتطلب قدراً من المصداقية والوضوح والندية، خلاف ذلك، لا يصبح تحالفا، بل تبعية.. والثورة التي ليس لديها مبادئ أخلاقية ليست ثورة.
قبل اندلاع الأزمة السورية العام 2011، كانت حماس الحليف الأول للدولة السورية، التي وفرت لها المأوى والدعم والحماية، وحظيت قياداتها آنذاك بما لم تحظَ به أي قيادات فلسطينية أو عربية سابقا.
وكان خالد مشعل يصف بشار الأسد ببطل محور المقاومة.. كما كانت حماس من قبل حليفة لإيران، التي مدتها بالصواريخ، والدعم العسكري، والخبراء. وحليفة لقطر التي دعمتها بالمال، وهذا التحالف السوري الإيراني القطري هو الذي وفر لها الغطاء الإقليمي في انقلابها على السلطة في غزة.
لكن الحركة بعد تفجر الأوضاع في سورية غادرتها على الفور، وانتقلت إلى قطر وتركيا، ومن هناك أيدت قوى المعارضة، وبدأت تصف النظام السوري بالدموي والفاسد وأنه يبطش بدماء المسلمين.
هذا الموقف من سورية يصنف ضمن الانتهازية السياسية؛ فليس مقبولا أن تتحالف مع نظام وأنت تعلم أنه فاسد وطائفي ودموي، وتكيل له المديح، ثم تنقلب عليه، وتبدأ بشتمه، وذمه!
ونفس الانتهازية السياسية مورست بحق إيران وحزب الله، فأثناء غرقهما في الأزمة السورية، كانت أدبيات حماس وإعلامها الرسمي والشعبي وناطقوها الرسميون، يصفون إيران بالشيعية، والنظام الفاسد، ويتهمونها باضطهاد "السنّة"، ويسمّون حزب الله "حزب اللات"..
المشكلة هنا ليست أخلاقية وحسب؛ بل في المعيار الطائفي أولاً، وفي توظيف الفتوى الدينية مع كل تقلب في الموقف السياسي ثانياً.. وفي تغليب المصلحة الحزبية على المصلحة الوطنية ثالثاً.
لا أعلم كيف تبرر حماس هذه التناقضات! وكيف تفسر الحرج من موقفها المتمثل بإعادة علاقاتها مع أنظمة طالما وصفتها بأبشع الأوصاف!
حماس، بصفتها حركة عقائدية عليها أن تقدم المبدأ والفكر والأخلاق على الدعم المالي مهما كانت محتاجة.. وطالما أنها حركة شعبية فمن الطبيعي أن تنشأ بداخلها تيارات متعددة، بين من يؤيد "محور المقاومة" ومن يعارضه.. ولكن عليها استيعاب هذا التنوع والتباين في المواقف، لا أن تغلفه بالشعارات الحزبية، أو تداري عليه بتضليل إعلامي.
في الموضوع الإيراني، نرى التناقض شديد الوضوح، ففي نفس الوقت الذي يشارك فيه إسماعيل هنية في جنازة قاسم سليماني، ويصفه بشهيد القدس، يصفه قادة آخرون من حماس بالمجرم والقاتل.
بعض كوادر حماس برروا تحالف حماس مع إيران وسورية بأنها مضطرة، مشبهين ذلك بجواز أكل الخنزير في حالة الاضطرار.. وهذا موقف غريب، ومستهجن، فمن غير المقبول أن تتلقى الأموال والسلاح والتدريب والدعم من نظام ثم تصفه بالخنزير.. فإذا كان هذا النظام (طائفياً، ومجرماً، ودموياً..) فمن الأساس لا تتحالف معه، أو حدد علاقتك معه بوضوح وشجاعة.. فإذا كانت إيران قائدة محور المقاومة، وأكبر داعم لفلسطين، والرجل الثاني فيها هو شهيد القدس.. فمن غير اللائق نعتها بالنظام الدموي واتهامها بأنها أوغلت في دماء المسلمين.
إما أن يكون ذلك تناقضا في المواقف وبشكل ساذج ومكشوف، أو هو ضرب من النفاق والانتهازية.. الجهاد الإسلامي مثلا حددت علاقتها مع الدولة السورية ومع إيران منذ البداية، بموقف ثابت لم يتغير.. سواء كانت محقة بذلك، أم لا، فهي على الأقل واضحة وصريحة.
وخلال فترة حكمها للقطاع، وقعت حماس في سلسلة من الإرباكات والتناقضات، والإحراجات السياسية، وقد تجلّى ذلك في الخلط بين برنامج الحكومة وميثاق الحركة، وفي العلاقة مع المجتمع الدولي، ودول الجوار، والتعامل اليومي المباشر مع إسرائيل، وعلاقتها بفصائل المقاومة، ومع متطلبات الحياة اليومية للناس، الذين أرهقتهم بالضرائب والقمع.
أزمة حماس الحقيقية أنها سعت للجمع بين ثنائيات متناقضة، فهي أرادت أن تُظهر نفسها كحركة تتمسك بالمقاومة، وفي الوقت ذاته تسعى لدخول النادي الدولي وأن يعترف العالم بها، بكل ما يعني ذلك من مقتضيات العمل السياسي واشتراطاته الدولية.. وأرادت تثبيت التهدئة، وألا يتهمها أحد بأنها تخلت عن المقاومة.. وأرادت أن تفرض نظاما اجتماعيا ينسجم مع رؤيتها الأيديولوجية دون أن تُتهم بأنها تقيد الحريات العامة.. وسعت لأسلمة المجتمع دون أن تُتهم بأنها نظام استبدادي ثيوقراطي.. وزعمت أنها حكومة خالية من الفساد، ولكنها في نفس الوقت وظفت الآلاف من عناصرها ومؤيديها.. وهذه متناقضات يستحيل الجمع بينها.
أخطر ما في الموضوع، أن "المقاومة" باتت مجرد شعار استهلاكي، وعلى الواقع كل همها تثبيت حكمها بأي ثمن.. وصارت نظام جباية، وبدلاً من تثبيت ودعم صمود الناس، أرهقتهم بالضرائب.