لعل أهم ما حققه الرئيس الأميركي جو بايدن، في زيارته إلى المنطقة منتصف الشهر المنصرم، توقيعه مع رئيس حكومة إسرائيل الانتقالية يائير لابيد، ما سمي «إعلان القدس»، بما فيه من معانٍ ومضامين، وما له من تداعيات ومآلات متوقعة، معنوية وسياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية واستخباراتية وتقنية، على صعيد العلاقات الثنائية بين الطرفين، وعلى الصعيدين الإقليمي والفلسطيني.
إذا ما أخذنا عنوان الإعلان، كملاحظة أولى، وقد حمل اسم مدينة القدس، نرى أنه يشكل اعترافاً أميركياً واضحاً ولا لبس فيه، بالقدس عاصمة لإسرائيل، في سياق المسار السياسي لإدارة ترامب التي بادرت هي إلى الاعتراف بالقدس (الموحدة) عاصمة لإسرائيل، ونقلت سفارتها إليها. في هذه الخطوة يكون بايدن قد حسم أمراً مهماً في العلاقات مع الجانب الفلسطيني، ومع العرب بما يتعلق بمصير المدينة المقدسة، وما تحتله من مكانة مميزة في الوجدان الوطني والقومي العربي والإسلامي والمسيحي.
الإعلان نص مرة أخرى على العلاقة الاستراتيجية بين الجانبين الأميركي والإسرائيلي، وباعتبار إسرائيل الحليف الأول للولايات المتحدة في المنطقة، وإذا كان هناك حليف ثانٍ أو ثالث، فلا شك أن مسافة غير قصيرة تفصل بين الموقع الأول وباقي المواقع في الحسابات الأميركية، كما نصت الوثيقة (الإعلان) على ضمان الولايات المتحدة أن تكون إسرائيل الدولة الأقوى في المنطقة، الأقوى في مواجهة الدول العربية وإيران وتركيا وغيرها ...، بكل ما يتطلبه هذا من دعم غير محدود في ميادين شتى، بما في ذلك الدعم المباشر لإسرائيل في حال تعرضها لخطر صواريخ المقاومة الفلسطينية (!).
ومن ملامح التعاون الاستراتيجي، الاعتراف الأميركي الدائم بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، بما في ذلك حقها في شنّ المعارك والحروب الاستباقية، على غرار ما قامت به في الحرب العدوانية الأخيرة على القطاع، تحت مسمى «بزوغ الفجر»، حين قامت إسرائيل باغتيال أحد قادة الجهاد الإسلامي، بدعوى الحرب الاستباقية، أيدتها فيه الولايات المتحدة بذريعة الحق في الدفاع عن النفس. وفي هذا السياق، سيكون من حق إسرائيل أن تعتدي متى تشاء، وأن تتطاول على الدول المجاورة، وأن تنتهك مياهها الإقليمية وسماءها، وتغتصب أرضها، وتنهب ثرواتها، بذريعة الحق في الدفاع عن النفس، وهو العنوان المعلن على الدوام لتغطية أعمال إسرائيل العدوانية.
ومن أهم ما في العلاقات الاستراتيجية بين الطرفين، عدم إقدام الولايات المتحدة على أية خطوة تمس إسرائيل دون التشاور المسبق معها والاتفاق معها. ولعلنا نتذكر كيف أن إدارة ريغان رضخت لمطالب إسرائيل وشروطها لعقد صفقة بيع طائرات الأواكس الأميركية للعربية السعودية، حين أفرغت واشنطن الطائرات من كل معداتها التجسسية (الاستطلاعية) وحولتها إلى مجرد طائرات مدنية، حفاظاً على أمن إسرائيل، وقبلت السعودية بالصفقة لأن المطلوب كان آنذاك دعم شركة بوينغ المنتجة لأواكس، وليس دعم الأمن السعودي.
على الصعيد الفلسطيني ماذا يمكن لنا أن نقرأ في الوثيقة (الإعلان) وبين السطور؟!...
بداية تكرست القدس عاصمة لإسرائيل (كما أسلفنا) ولأن التشاور مع إسرائيل هو أساس التعاون بين الطرفين، يمكن القول بكل ثقة أن مسألة إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس باتت خلف الظهر، وقد استعيض عنها بمكتب اتصال، مقره السفارة الأميركية معني بتنظيم العلاقة مع الجانب الفلسطيني.
لذلك يمكن القول أن مسألة إعادة افتتاح مفوضية م. ت. ف. في واشنطن، باتت هي الأخرى خلف الظهر، إرضاءً لإسرائيل، وإرضاءً للكونغرس الذي ما زال يدرج م. ت. ف. على جدوله الخاص بالمنظمات الإرهابية.
أما استئناف المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية، فهذا معلق إلى أن تقدم السلطة حلاً يضمن عدم تسريب الأموال الأميركية إلى عوائل الإرهابيين (الأسرى والشهداء)، وليس سراً أن يقال أن السلطة قدمت أكثر من عرض للولايات المتحدة، بما في ذلك اعتماد الأسرى وعوائل الشهداء في سجلات الحالات الاجتماعية الأكثر فقراً، التي تتلقى مساعدات دولية من وزارة التنمية الاجتماعية (أي تحرير الإلتزام المالي من مضمونه السياسي والوطني والأخلاقي).
أما استئناف الولايات المتحدة مساعداتها لوكالة الغوث، فتم بموجب وثيقة للتعاون المشترك، تهدف إلى إعادة صياغة برامج التعليم وتنقيتها من أي مضمون وطني فلسطيني، واستبعاد الناشطين الفلسطينيين عن وظائف المنظمة الدولية، بذريعة حياديتها.
أما إذا ذهبنا إلى الأبعد، أي مسألة «الحل الدائم» ومشروعها «حل الدولتين»، فعلينا أن نلاحظ التالي:
• إسرائيل لا تعترف بالشريك الفلسطيني في أية عملية سياسية قادمة، وتشترط لذلك أن تحسم السلطة الفلسطينية الوضع في قطاع غزة أن تستعيد سيطرتها عليه، وتقويض سلطة حماس، أي دعوة مكشوفة لحرب أهلية دموية مدمرة، تقدم الفلسطينيين شعباً همجياً عاجزاً عن إدارة شؤونه بنفسه. بالمقابل لا نذيع سراً، إذ نقول أن الأمور في قطاع غزة بدأت تسير عملياً باتجاه وضع جديد، يطلق عليه «التهدئة مقابل الرخاء»، فقد نجحت إسرائيل في استغلال أوضاع القطاع المحاصر، وحولت قوتها الخشنة في الحصار إلى قوة ناعمة، خفقت عبرها من بعض حلقات الحصار، بما في ذلك تحويل سوقها الإنتاجية إلى السوق الرئيسية للعمل الفلسطيني في قطاع غزة، ما عزز ارتباط «الخدمات» الإسرائيلية باستمرار الهدوء، ما يعني إدخال القطاع، والمقاومة على أرضه، في مرحلة معقدة، تتضارب فيه العناصر بين الإلتزام الوطني، وبين شروط توفير الحياة للسكان. ولأن الاستراتيجية التي تربط إسرائيل بالولايات المتحدة، تفرض التشاور المسبق فتصبح أمام واقع مشهده كالتالي:
• لن تطلق الولايات المتحدة إشارة استئناف المفاوضات إلا بعد العودة إلى إسرائيل وموافقتها.
• لن ترسم الولايات المتحدة مستقبل الاستيطان في الضفة الفلسطينية في إطار «حل الدولتين» إلا بما يرضي إسرائيل.
• لن ترسم الولايات المتحدة علامات الدولة الفلسطينية (حدودها - عاصمتها – إجراءاتها السيادية) إلا بما يرضي الجانب الإسرائيلي، ولا نجد في هذا كله شيئاً جديداً، فإذا عدنا إلى تجربة المفاوضات السابقة؛ لاحظنا كيف أن التنسيق الإسرائيلي الأميركي كان في أحسن حالاته، للاستفراد بالجانب الفلسطيني، ولعل من الإشارات التي أطلقها بايدن عن مستقبل الدولة الفلسطينية، حديث عن دولة «متصلة» وليس دولة «متواصلة»، أي بالمعنى السياسي المعروف، فالدولة المتصلة هي الدولة التي تفصل بين مناطقها عوائق، كالجسور والأنفاق والدوائر الالتفافية، وهذا ليس بمشروع جديد يقدم للفلسطينيين إذ سبق وأن قدم في سياق مفهوم (تبادل الأراضي على جانبي الحدود)، أي بتعبير آخر، الحفاظ على المستوطنات الإسرائيلية في قلب الدولة الفلسطينية.
لن نسأل عن ردود فعل الدول العربية والإقليمية، إزاء «إعلان القدس» ليس هذا هو موضوعنا، بل نسأل عن رد الفعل الفلسطيني.
نلاحظ أن سياسة القيادة السياسية لسلطة الحكم الإداري الذاتي الفلسطيني، لم تشهد تغييراً على ضوء «إعلان القدس»، بل يمكن القول أنه ازداد استكانة، فمنذ مغادرة بايدن للمنطقة، والحالة السياسية الرسمية الفلسطينية مشلولة، ورغم النار التي اشتعلت في القطاع، فإن السياسة الرسمية الفلسطينية ما زالت مشلولة.
ترى هل سلمت بما قاله بايدن بأن لا حل على الأبواب، وأن الممكن هو حلول اجتماعية وحياتية جزئية (الحل الاقتصادي) مقابل تعزيز التعاون والتنسيق الأمني.
هل فرغت جعبة القيادة السياسية من أية بدائل أو مبادرات، رغم أن الشارع الفلسطيني لا يكف يومياً عن تقديم بدائله؟ هل باتت السلطة أسيرة الحالة الضبابية الانتظارية؟ هل تدرك السلطة أن الحالة الفلسطينية تشبه تلك السفينة التائهة في البحر الهائج أو الطائرة التي تحلق بركابها وقد غادرها ملاحوها ؟
أسئلة كثيرة قد تطرح على القيادة السياسية دون رهان على إجابات شافية، ما دام مسارها هو «اتفاق أوسلو»، وما دامت ترى في «العنف والإرهاب» بديلاً لما يسمى المقاومة السلمية