لا غرابة في التصيّد الإسرائيلي لالتباسٍ طفيفٍ وجانبيٍّ في تصريح الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، في برلين قبل أيام، فقد دأبت تل أبيب على بذل كلّ ما تملك يمينها لليّ أعناق الكلمات هنا وهناك، للتغطية على أمر جوهري، وهو وجود الاحتلال نفسه، وما يرتبط به من ارتكاب جرائم بصورة منهجية ضد الشعب الضحية. وهو ما تدركه جيداً الدبلوماسية الفلسطينية في سجالها المفتوح مع الدعاية الإسرائيلية، غير أنّ هذا الإدراك يتنحّى جانباً أحياناً لدى الاستسلام أو الانسياق لنزعة ارتجالية في التعبير، يتصوّر أصحابها أن العفوية في التعبير هي أقرب إلى قلب المستمع ثم إلى عقله، وهو مفهومٌ يسود في الشرق، خلافا لاحتكام الغرب إلى العقل البارد الذي يدقّق في منطوق الكلمات، ويصرف النظر عن النيات والحالة العاطفية للقائل. يتصيّد الاحتلال أية هناتٍ أو التباس ظاهري في التصريحات والمواقف العفوية وشبه العفوية، ويدفع القائل إلى موضع دفاعي، وهو ما حدث مع عبّاس الذي تصوّر، في لحظة انفعال، أن الحديث بـ"حرارة ومرارة" سوف ينفذ سريعا إلى قلوب المستمعين في ألمانيا وفي الغرب. وهذا خطأ بارز، إذ سها الرجل، كما يبدو، عن أن لدى ألمانيا التي تستضيفه حساسية خاصة وعالية تجاه "الهولوكست" لأنّ مرتكبي المحرقة في الماضي ينتسبون إلى هذا البلد الذي قطع مع الماضي النازي بكل مشتملاته، بما فيه المحرقة. وهو سهوٌ جسيمُ من عبّاس، دارس العلوم السياسية وصاحب الخبرة الدبلوماسية الطويلة، بحكم المواقع الرفيعة التي تبوأها في المؤسّسة الفلسطينية أزيد من نصف قرن. ولهذا جاء رد الفعل الألماني لا يقل في قسوته عن الردّ الإسرائيلي، فألمانيا لا تسامح نفسها أبدا على "الهولوكست" وتتوقع من أصدقائها وضيوفها إدراك ذلك، والالتزام بمقتضاه.
كان حرّياً بعباس أن يفهم مستقبليه الذين لا يقبلون تأويلاً للهولوكست
وعبّاس الذي كان ينشد أن يفهمه مضيفوه كان حرّياً به أن يفهم بدوره مستقبليه الذين لا يقبلون تأويلاً للهولوكست. وهو ما يدلّل على ان العفوية في الخطاب السياسي والدبلوماسي مصيدة لأصحابها، وليست بالضرورة، وفي جميع الأحوال، موهبة تثير الإعجاب. وللأسف، تعكس العفوية، بمعنى الارتجال في التعبير، عفوية مماثلة في التفكير، حيث يترجّح ما هو عاطفي سارح على ما هو عقلي منضبط. وكان يمكن تفادي هذا الخطأ الجسيم بالتحضير المسبق للتصريحات، ولا يُعيب التحضير مسؤولاً ما أيا كان موقعه، بقدر ما يُؤخذ عليه الارتجال الجلاب للأخطاء والمتسبّب بأضرار دبلوماسية وخسائر سياسية، إذ تبدّدت الفوائد المتوخّاة من زيارة المسؤول الفلسطيني، وذلك مع نعت مضيفيه تصريحه بعباراتٍ شديدة القسوة، ترقى إلى مستوى التوبيخ، وهو ما يُلحق ضرراً بمكانة القضية الفلسطينية، لا بالمنزلة المعنوية لعبّاس فقط.
أما سلطة الاحتلال الإسرائيلي فشأنها مختلف في رد الفعل الذي أبدته، ففي حين أن عبّاس أراد توجيه الضوء إلى الجرائم الإسرائيلية (وكان حدث مقتل خمسة أطفال في غارة إسرائيلية على قطاع غزّة ما زال ماثلاً في الأذهان)، فقد اندفع مسؤولو الاحتلال إلى حرف الأنظار عن هذه المسألة، وحصر النظر في الهولوكوست دون سواه، وهي طريقة إسرائيلية معهودة ونمطية في التستّر على الجرائم أو تبهيت صورتها على الأقل. وعوضاً عن التركيز على ما يحدث في أيامنا هذه، يسارع الخطاب الإسرائيلي إلى توجيه الأنظار والأذهان إلى الماضي، وجعله أكثر مدعاة للاهتمام من الحاضر، بما يسمح لهذه السلطات أن ترتكب ما تشاء اليوم وغداً، ما دام الحاضر (واقع الاحتلال) ليس جديراً بالاهتمام، مقارنة بالماضي الذي يتمحور حول كارثة المحرقة والذي بدأ منه تاريخ جديد. وليت المسؤولين الفلسطينيين، ما داموا لا يحسنون صياغة عبارة تجمع في فحواها بين محنتهم ومحنة غيرهم، يتوقفون عن ارتجال مثل هذه العبارات، إذ غالباً ما يكتشفون، متأخرين، أنّها عبارات يجري النظر إليها أنّها مفخّخة وبصرف النظر عن نياتهم.
استهداف عباس في هذه الآونة هو استهداف لما يمثله من اعتدال
وبحملهم على عبّاس، شاء مسؤولو الاحتلال إشاعة الانطباع بأن تعطيلهم المسار التفاوضي منذ نحو سبع سنوات كان مبرّراً، فكيف لهم أن يتفاوضوا مع عبّاس الذي يقلل من كارثة الهولوكوست؟ لقد استبقوا الأمور، واتخذوا احتياطاتهم، فأوقفوا التفاوض مع الرجل، وعلى العالم أن يعذرهم، وأن يغبطهم على فطنتهم، كما على العالم أن ينسى أيضاً مسألة حلّ تفاوضي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فالحلّ العسكري قد يكون أكثر نجاعة في حسم المسائل المعلقة.
أبعد من هذا، استهداف عبّاس في هذه الآونة هو استهداف لما يمثله من اعتدال، وبما أنّ الاعتدال، على درجاته، والتشدد على وتائره المختلفة، يمثلان مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية، وبما أنّ هذه الحركة برمتها موضع استهداف صهيوني، يغدو مفهوماً أن يجري استهداف حركة الجهاد الإسلامي في غزّة (ومعها ما تيسّر من مدنيين ومرافق مدنية) بالقصف الحربي، فيما يتم استهداف رأس السلطة الفلسطينية بقصف سياسي ودبلوماسي وإعلامي. وبهذا، يظل الجسم السياسي بمجمله موضعاً للاستهداف الصهيوني المنهجي. لقد تم اغتيال ممثلين كثر لمنظمة التحرير في أوروبا في ربع القرن الأخير من القرن الماضي ممن كانوا يوصفون بالاعتدال، لأن الوعي الشقي للحركة الصهيونية يذهب إلى أنّ أصحاب أصوات الاعتدال يمثلون مخاطر على دولة الاحتلال، شأنهم شأن الوطنيين المتشددين. وحين تم استهداف الرئيس الراحل، ياسر عرفات، فقد كان هذا الرجل يوصف حينذاك بأنّه يقف في مقدّمة روّاد الاعتدال، ولم ينجح خلفه محمود عبّاس، وقد بات أكثر اعتدالاً من عرفات في دفع اليمين الإسرائيلي المهيمن إلى التفاوض إلّا إلى أمدٍ قصير، وقبل أن تنطلق أصوات صهيونية تفيد بأنّ الحلول متعذّرة مع وجود هذا الرجل. وقد جرى التقاط تصريحه في برلين وتفكيكه وإعادة توجيهه لتكريس الرأي بأنّ لا شيء يفوق في الأهمية، ولا شيء يستحق الاهتمام به، عقب ذلك الذي حدث في العام 1945 بحق ملايين من اليهود. وعلى هذا النحو، يجري إيقاف عجلة التاريخ، بل تمويت التاريخ، بما يتناسب مع مطامع الحركة الصهيونية في الاستيلاء على كامل أرض فلسطين والنفي المادي والسياسي لوجود شعبها، ضمن منهجية قارّة متتابعة الحلقات، فيما يطيب لبعضٍ منا أن يرفد الصمود الشعبي الباسل بعفوية سياسية مسترخية، تمنح الطرف الآخر في لحظات الانفعال مزيداً من الذخيرة.