كنت كغيري من المثقفين والمفكرين الفلسطينيين نتساءل دائماً: لماذا يبدو الأب منويل مسلَّم الفلسطيني المسيحي رجلاً استثنائياً في شخصيته ومواقفه؟ وما هي خلفيةُ ما يَظهر عليه من الجُرأة والشجاعة، عندما يصدح بصوت قوي في وجه الاحتلال الإسرائيلي، مندداً بانتهاكاته العدوانية واجراءاته التعسفية، أو في شجبه للسلطة وسياساتها التي لا تبدو قوية بالقدر الكافي في رفضها لممارسات دولة الاحتلال المارقة.
لقد انتابتني حالة من الإعجاب بشخصية الرجل ومواقفه النضالية والسياسية المتميزة، فكتبت عنه ثلاثة كتب، بعد أن أبحرت في سيرته ومساره كرجل دين وإنسان تربوي فاضل، إضافة لصفحاته المتميزة كسياسي في الحركة الوطنية، حيث اكتشفت أننا أمام حالة وطنية فريدة في السياقين الديني والسياسي، وأنه بحق شخصية فلسطينية مسيحية استثنائية.
يقولون بأن "فهم الشيء جزءٌ من تصوره"، لذلك إذا جاء ذكر المسيحيين فإن أول شيء يتبادر إلى الذهن لدى كثير من المسلمين أنهم أحفاد الصليبين الغزاة للشرق الإسلامي، فيما الصورة الحقيقية الأكثر إنصافاً لهم أنهم أتباع السيد المسيح (عليه السلام)، وأن جذورهم تمتد إلى أعماق هذه الأرض التي باركها الله للعالمين.
للآسف، إن الكثير من المسحيين الفلسطينيين لا يظهر لهم دور ضمن السياق النضالي والوطني بالفاعلية التي عليها أغلب إخوانهم من المسلمين، وإن كان هناك من بينهم من الكهنة والسياسيين من قدَّموا نماذج مميزة في مناهضة الاحتلال الإسرائيلي الغاصب، أمثال المطران كابوتشي والرفيق جورج حبش وآخرون.
ربما كان الأب منويل مسلَّم من أكثر من تَصدَّروا المشهد المسيحي المعاصر على مستوى الكلمة والأدب والثقافة النضالية، وكانت مواقفه وتصريحاته ضد الاحتلال ومظاهر العدوان الاسرائيلي هي الأقوى نبرة والأكثر حضوراً، وخاصة تجاه انتهاكات المستوطنين واستهدافهم للمسجد الأقصى وسياسات التهويد للمعالم الإسلامية والمسيحية التراثية في مدينة القدس وأكنافها الحضارية، حيث طالب المسيحيين بالوقف إلى جانب إخوانهم المسلمين بالرباط في المسجد الأقصى، والدفاع عن عروبة القدس وحضارتها، وهو بذلك يمثل صوتاً مسيحياً استثنائياً، يعكس قوة الحضور الوطني وعمق الانتماء للأرض الفلسطينية، التي نشأ وترعرع عليها، ورضع لِبان الهوية النضالية، فكان تعامله مع أبناء شعبه بأسلوب لا يُفرِّق بين مسيحي ومسلم، وفتح العديد من المدارس في قرية الزبابدة ومدينة غزة لاستقبال أبناء فلسطين، بغض النظر عن خلفيتهم الدينية، إذ كانت بطاقة الدخول هي الهوية الفلسطينية، التي هي -من وجهة نظر الأب منويل- الجوهر والأساس، وكانت مسطرة القياس لديه تعتمد بالدرجة الأولى على منهجية عدم التفريق بين أبناء شعبه، فالكلُّ في السياق النضالي والوطني سواء، وهم جميعاً أعمدة حِراكنا الثوري وركائز مشروعنا في التحرير والعودة.
لم تكن هذه المواقف والسياسات التي اتبعها الأب منويل تجاه أبناء شعبه تمضي بدون اعتراض، إذ لطالما استهجن بعض أبناء طائفته محتجين على سلوكياته الوطنية تلك!!
لم تقف مواقف الأب منويل وسياساته عند هذا الحد من الانتماء الوطني، إذ كانت كلماته للفلسطينيين من إخوانه المسلمين برفع الآذان والصلاة في كنائسهم إذا استدعت الضرورة ودمر الاحتلال مساجدهم، وكانت وقفته الرجولية إلى جانب المقاومة ودعم العمل المسلح ضد الاحتلال.. كما أن تصديه لكلِّ من اعترض على تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد في استانبول، مُذكّراً مسيحي العالم بأن "أيا صوفيا" التي تحظى بالقداسة لدى الكنيسة الأرثدوكسية كانت تدوسها الأقدام بلا تقدير واحترام، وأنها اليوم استعادت طهارتها بتحويلها إلى مكانٍ للعبادة من جديد.. ووجه الأب منويل كلمةً لمسيحي العالم أنصف فيها صفحات التاريخ، حين ذكَّرهم بأن مساجد المسلمين بعد سقوط الأندلس تمَّ تحويل أكثرها إلى كنائس ومتاحف، كما أن هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الثانية جرَّأت المسيحيين في أوروبا بتحويل الكثير من جوامع المسلمين في البلقان واليونان وبلغاريا إلى اسطبلات وأماكن تُمارس فيها الرذيلة!!
لا شكَّ أن الأب منويل كان يتمنى أن تعود "آيا صوفيا" كنيسةً كما كانت قبل الفتح العثماني، ولذا وجدناه يبادر بطرح مبادرة للمصالحة بين الشرق والغرب يتم بموجبها استعادة مسلمي إسبانيا لمسجد قرطبة، الذي صار كنيسة ومعلماً سياحياً، مقابل أن تعود "آيا صوفيا" كنيسة كما كانت قبل سقوط الامبراطورية البيزنطية 1453، وهذا يعكس عمق الرؤية وبُعد النظر والحكمة التي ترسم مواقف الأب منويل مسلَّم.
بالطبع، لم تُرضِ هذه المواقف غلاة المسيحيين في الكثير من أنحاء العالم الغربي، وشنَّ بعضهم حملات تحريض وتشهير ضده.
ولعليِّ فيما علمته عن شخصية الأب منويل خلال إقامته لقرابة العقد ونصف العقد في غزة، أنه كان على علاقة وطيدة مع إخوانه الفلسطينيين حكومةً وشعباً، وعمل مع الجميع كأبناءِ وطنٍ واحد، وتقاسم مع فقراء قطاع غزة لقمة العيش، والكثير مما كان يصله من مساعدات دولية. كما أن مواقفه تجاه القدس والأقصى ونداءاته لكلِّ مسلمي ومسيحي العالم بالتحرك لنصرة أهالي بيت المقدس هي مثار إعجاب لكل من عرف الأب منويل.
إن مثل هذه النداءات والتصريحات التي أطلقها لنجدة القدس والأقصى لتؤكدَ على متانة الانتماء للهوية والأرض، والذي وثَّقه الأب منويل في أزجاله التراثية وأدبياته السياسية، والتي جمعتُ بعضاً منها في كتاب بعنوان "الأب منويل مسلَّم.. من وحي الوطن".
في الحقيقة؛ إن الأب منويل هو أيقونة وطنية ونموذج يُعتد به للمسيحي الفلسطيني الاستثنائي، الذي وضع فلسطين؛ الأرض والهوية، عنواناً لشخصيته، ومَعلماً لما يَتوجبُ أن تكون عليه العلاقة الأخوية في حميميتها وعروتها الوثقى بين المسلمين والمسحيين.
وأخيراً.. إذا كانت مواقف الرجال هي من تُقدِّمهم وتمنحهم صدارة المشهد، فإن مواقف الأب منويل البطولية والمؤيدة للمقاومة الفلسطينية، والداعمة لكلٍّ من حماسٍ وقياداتها وواجهاتها السياسية، والمنددة بكلِّ أشكال الاحتلال والعدوان الإسرائيلي للقدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، لتؤكد أننا أمامَ رجلٍ كان بمواقفه وبكلماته وسيرته شخصيةً استثنائية، ونموذجاً ومثلاً يجب على كل مسيحي فلسطيني الاقتداء به، والنظر إليه من خلال ما أودعه بين أيديهم ورهنِ عقولهم من ثروة في مجال الفكر والسياسة والأدب، تستدعي كل من قرأها أو عايشها -والرجل ما زال حيَّاً بينا- أن يقول بملءِ فيه: "مرَّ.. وهذا هو النهج والأثر".
إنَّ الأب منويل ذو الجذور اليمنية التي حطَّت رحالها في الأردن، ومن هناك اضطرت بسبب الثأر إلى التوجه والانتقال إلى فلسطين والتوطن فيها.
الأب منويل هو حقيقة رائد العلاقات المسيحية الإسلامية، فلا تكاد تجد مناسبة دينية أو اجتماعية إلا ومشهد حضوره ظاهراً فيها من إفطارات رمضانية أو مواقف تجمعه مع الشيخ عكرمة صبري في القدس والمسجد الأقصى أو إلى جانب د. ناصر الشاعر متضاماً معه في المستشفى بعد محاولة خسيسة لاغتياله.
باختصار.. الأب منويل هو أحد خامات الزمن الجميل، الذي جمع بين الأصالة والمعاصرة، وأعطى لمسيحي فلسطين ومسلميها قيمة إنسانية وحضارية فريدة.