في إطار فعاليات اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء، خصصت الحملة الوطنية واحدة من فعالياتها الأساسية لتكريم فارسها وأحد المبادرين لتأسيسها المناضل المرحوم سالم خلة “طارق أبو زياد”، كما أطلقت كتاباً عن سيرته الوطنية.
جرى ذلك بحضور وطني واسع، تقدمه ذوو الشهداء الذين نجحت الحملة في استرداد جثامينهم، وأولئك الذين ما زالوا يناضلون لاستردادها من أجل تكريمهم ودفنهم بما يليق بهم وبكرامتهم الإنسانية كأبطال للحرية التي تستحقها فلسطين.
“أبو زياد” قامة عالية من قامات فلسطين التي تحتل العقل والوجدان من أول لقاء ودون مقدمات، وهي غير قابلة للرحيل من الذاكرة حتى بعد رحيله عن الدنيا. اقترن أبو زياد في ذاكرتي بدايةً من خلال صديقه ورفيق دربه شقيقي الشهيد بشير زقوت، وتوطدت هذه العلاقة لتصبح علاقة خاصة بين أسرتينا، ومثل كثير من العائلات التي انخرطت في النضال أصبحت علاقة مصاهرة شكلت امتداداً عضوياً لعلاقة الصداقة. ولم يكن لوالدتي رحمها الله أن تصل دمشق في طريقها لزيارة ضريح الشهيد بشير في مقبرة الشهداء في بيروت دون أن تمر ببيتهم في مخيم اليرموك .
ظل أبو زياد دوماً في ذاكرتي، وقبل أن ألتقيه، واحداً من الكبار الذين ملأوا الدنيا بتفانيهم، وبالمهمات الكبرى التي كانوا يتحملون مسؤولياتها، وفي سنوات متأخرة، بعد عودته للوطن، ربطتني به علاقات عمل على أكثر من صعيد. لن يحتاج الإنسان لكثير من الوقت كي يتعرف وبسرعة على سماته القيادية واختياره لمهمات ذات طبيعة خاصة. مبدعاً كان، ومتنوراً مرناً، ولم يكن إطلاقاً أسيراً لفكر أو أيديولوجيا عندما يكتشف حاجتها للتطوير أو التغيير. فقط فلسطين ومستقبل حريتها وانتصار العدالة لشعبها هي ما كانت تشغل باله، وتحتل اهتماماته المباشرة وبعيدة المدى، والفكر بمكوناته السياسية والتنظيمية مجرد وسيلة لاشتقاق أشكال النضال التي تجعل فلسطين حقيقة وحريتها ناجزة. ولم تكن مجرد صدفة أن يتحمل أبو زياد بكل مسؤولية ودفء إنسانيين لمهمات الحملة الوطنية لاسترداد الجثامين المحتجزة لدى قوات الاحتلال أو ما تسمى بجثامين شهداء الأرقام.
لقد ظل هذا الملف كصندوق أسود، وظلت قضية الشهداء المحتجزة جثامينهم واحدة من العثرات الكبرى في مسيرة الثورة، حيث لم تحظى هذه القضية الوطنية والإنسانية بما تستحقه من اهتمام، حتى انطلاق تلك الحملة التي اقترن اسم المناضل الكبير سالم خلة “طارق أبو زياد” بها منذ انطلاقها، منسقاً لأعمالها وأنشطتها.
تعزز تواصلي بهذا الرجل الاستثنائي في خضم إنجازات هذه الحملة وامتلاكها مساحة جدية ملموسة في الرأي العام الفلسطيني، بما يستحق هؤلاء الشهداء من أعلى درجات التكريم الإنساني والبطولي في آن، عملنا معاً في مكتب رئيس الوزراء الأسبق، والحملة التي احتضنها مركز القدس للمساعدة القانونية، والذي شغل أبو زياد أيضاً عضوية هيئته العامة ثم مجلس إدارته.
وقد أقرت الحكومة وقتها اعتماد “اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء” بقرار من مجلس الوزراء في الثالث من آب 2008، باعتبار يوم السابع والعشرين من آب من كل عام يوماً وطنياً لاسترداد جثامين الشهداء الفلسطينيين والعرب. فاستمرار احتجاز سلطات الاحتلال الإسرائيلي لهذه الجثامين، وعدم الكشف عن المفقودين تعتبر مخالفة واضحة، وانتهاكاً جوهرياً لمعاهدة لاهاي لسنة 1907، والتي تتعلق بقوانين وأعراف الحروب، وأيضًا مخالفة لاتفاقية جنيف الأولى في البند 15 و17 والتي تلزم سلطات الاحتلال بتسليم جثامين الشهداء لذويهم ودفنهم مع المحافظة على كرامتهم حسب معتقداتهم الدينية والاجتماعية.
وقد نجحت الحملة باسترداد العديد من الجثامين، ولكن مع تصاعد بطش الاحتلال وعمليات القتل والاغتيال في السنوات الأخيرة، فقد استمرت أعداد الشهداء المحتجزة جثامينهم في ازدياد، و ظل اسم أبو زياد مقترناً بهذه الحملة التي تواصل عملها ومتابعة مهامها حتى اليوم.
مع اشتداد أثر الانقسام ومخاطر تحوله لانفصال يهدد مستقبل ومكانة القضية الوطنية وحقوق شعبنا، وتداعياته الخطيرة على المجتمع الفلسطيني سيما الفئات الكادحة والفقيرة، كان أبو زياد أحد أبرز المبادرين لإطلاق حملة “وطنيون لإنهاء الانقسام” وقد عملنا معاً في هيئة متابعة وتنسيق أنشطة هذه الحملة، حيث كان أبو زياد دوماُ يمثل ضميراً وطنياً مدركاً ليس فقط للمخاطر السياسية لأبعاد الانقسام،
بل وأيضاً ما يلحقه من أذى وأثر عميقين على حياة أهلنا في قطاع غزة، وفي الريف والمناطق المهمشة والمهددة بالاستيطان في الضفة الفلسطينية، والتي باتت بمجملها فريسة لأطماع ومخططات المشروع الاستعماري الصهيوني التوسعي، تستفرد بها منظومة الاحتلال العسكري والاستيطاني. وقد كان أبو زياد دوماً صوت الضمير لهذه الفئات التي تدفع ثمن الانقسام من قوت يومها ومن مصادر رزقها ومن أرضها المستباحة والمهددة بالمصادرة، واستمر الراحل الكبير في متابعة هذه الحملة بكل طاقته رغم أوجاع المرض الذي داهمه بقسوة.
أدرك الرفيق سالم مبكراً ضرورة تكريس الجهد لبناء تيار ديمقراطي عريض، وقد أتى الانقسام الذي شكل ضربة قاصمة للمشروع الوطني، محصلة لحالة الاستقطاب وصراع القوى المهيمنة على المشهد الفلسطيني، بعيداً عن مصالح الأغلبية الساحقة من أبناء وبنات شعبنا، كما أدرك أن هذا الاستقطاب الانقسامي لا يمكن أن يوضع له حد دون إحداث تغيير جوهري في توازن القوى الاجتماعية وتعبيراتها السياسية من خلال الإخلاص لضرورة بلورة تيار وطني ديمقراطي عريض يكسر حلقة الانقسام الجهنمية،
ويكون قادراً على إعادة الحياة للمؤسسات الوطنية الجامعة في إطار حكومة وطنية أولويتها العليا مصالح الأغلبية الساحقة وتوفير متطلبات صمودها، واستنهاض وتوحيد الطاقات الوطنية في إطار مؤسسات منظمة التحرير القيادية، وإعادة الاعتبار لطابعها الائتلافي كجبهة وطنية عريضة.
في لحظات مرضه الصعبة لم تفارق الابتسامة وجه “سالم اليافاوي” كما يسميه الشاعر سامي الكيلاني، نسبة لمسقط رأسه مدينة يافا الجميلة، والتي هُجّر منها في طفولته، ليستقر وأسرته في يعبد القسام التي نشأ وشق منها أولى خطوات درب كفاحه الطويل في ساحات ومجالات النضال المختلفة.
ستظل ذكراك عطرة ندية رفيقنا صاحب الابتسامة السحرية، ولن تفارقني ذكراك وذكرى بشير وأبو ربيع، والتي جمعتكم معا حياة كفاحية وشخصية مميزة، ولن أنسى مقولة أبو ربيع وهو يودع رفاقه قبل وفاته بأيام، “الحياة كانت حلما جميلاً”، وكأنه يرسم نهاية رجل شجاع بابتسامة المقاتل الذي يطوي صفحة الحياة بإرادة الشهداء، وأظنها كانت أيضا كلماتك الأخيرة في وداع رحلة الحياة التي لن تغيب عنها بصماتك وأعمالك الخالدة وذكراك وذكراهم وكل الشهداء.
كلمة أخيرة لابد منها، وهي أن تكريم الأبطال في حياتهم وفي غيابهم يجب أن ينطلق دوماً من احترام خياراتهم ومآلاتها، فحق الاختلاف والتنوع سمة الثورات الحية، والإقرار به شرط لمواكبة روح العصر في عالم متغير.