هل ثمة مخرج من مأزق الانقسام والتشظي في الخارطة السياسية الفلسطينية ، أم تراها صيرورة؟

79b49d91080c6f66e3de8c2e3d827910.jpg
حجم الخط

بقلم:د. احمد قطامش

 

 

الأزمة مركبة وان كان ثمة مخرج فهو مركب أيضا، والتركيب هو نقيض التبسيط والصيرورة هي على الضد من الضربة القاضية (في المصارعة) .
جرت العادة ان يطلب هذا الفريق من الفريق الأخر كذا وكيت، والعكس صحيح أيضا. واحيانا لا يخلو الأمر من التراشق بالكلمات وشيطنة الأخر وكيل شتى الاتهامات، ومن الجلي أن هذا النمط من التفكير قد صب الزيت على النار دونما إطفاء لنار الانقسام، والانكى انه تجاهل الإمساك بالقواسم المشتركة، فأصبحت الخارطة السياسية خريطتان أو أكثر والسلطة سلطتان أو أكثر ...
ولان المسيرة التحررية الفلسطينية، ما قبل أوسلو غلب على معظم سنواتها الوحدة، فالوعي الفلسطيني وطّن نفسه على الوحدة الوطنية، سيما في ظل توافر أرضية سياسية ورموز قيادية ملائمة رغم أية ثغرات هنا. وما أن تشتد التناقضات تجد مخرجا في الوحدة الوطنية من جديد. وهذا سر القانون الذي اشتقه الحكيم د. حبش ( الوحدة والتناقض) والفصائل رغم الفوارق الايديوليوجية إنما بداياتها واحدة وتركيبتها الطبقية واحدة، كتلة تاريخية من الفقراء والعمال والفلاحين والشباب والمخيمات وقيادات تنتمي للطبقة الوسطى من حملة الشهادات الجامعية ولكنها منغمسة في الكتلة التاريخية وتقف في طليعتها. وهذا كنا نلمسه بجلاء في سجون الاحتلال وسجل الخالدين من الشهداء. ولكن تحولات طرأت في الحقبة النفطية وعقد الثمانينات وتوقيع مبادئ أوسلو عام 1993 التي غدت مرحله، فطغى الانقسام العمودي وذهب لمديات بعيدة، فلم تقو كل المحاولات والجهود لجسر هذا الانقسام .
ولا تشكل إضافة معرفية ونظرية تعداد الأسباب التي اشبعت مرات ومن زوايا متعددة ومتباينة، أما مقاربتي فهي مجرد محاولة تسعى لإرساء خطوة في طريق الحل وليس توزيع الاتهامات ومن خبرة الناس فهم يعلمون أن الجعجعة وشحذ السيوف والادعاء باحتكار الحقيقة من قبل النخب " ومناضلي الصالونات" بأن لا جدوى من هذا التفكير الذي يتضاءل حضوره، فيما الرد العملي للجمهرة الفاعلة ابتكار صيغ وحدوية متعددة للمواجهة سواء في قلاع السجن أو في الأرياف والنضالات النقابية ، أو هبة القدس ووثبة أيار 2021.. ناهيكم عن الحرص على النسيج الاجتماعي في كل مكان والالتفاف حول رموز الهوية الوطنية في كل مكان، سيما وان الشعب يخوض معركة وجود ومعركة مستقبل .
معلوم أن المثقف أو المتثاقف يسبح في المطلق، أما السياسي فيتعثر في النسبي، والإبداع ( أن لا ينتهك التاكتيك الستراتيجيه وان لا تنتهك السياسة الايديولوجيا) الحكيم حبش.
ولا مدعاة هنا للحديث المكرور عن الدينامية التفكيكية والاستباحة الاستعمارية العنصرية والمعضلات المتفاقمة من كل الطرز ... فهذا يعرفه القاصي والداني وان بتفاوت. فالفلسطيني عاملا كان أم فلاحا أو من الفئات الوسطى أو من الشرائح البرجوازية ، نساء ورجال شباب وجيل أقدم، يقطن في المدينة أو الريف أو المخيم، إنما يتنفس ثقافة سياسية يوميه. ومفيد التذكر أن نسبة العائلات التي لم تختبر حياة الأسر لا تزيد عن 25% بعد أن ناهز مجموع الأسرى منذ حزيزان 67 المليون ، هو نفس الرقم لعدد العوائل في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة .. بما تعنيه حياة السجن ليس للأسير فقط بل لعائلته وجيرانه أيضا !
وتأسيساً عليه، لم تستطع العبارات الخشبية والمقولات النارية والمعانقات وأحيانا الحجج المنطقية في لملمة الساحة السياسية الفلسطينية . فثمة قيادتين ونهجين، ولكل قيادة نهجها السياسي وسلطتها وتحالفاتها وتمويلها وتأييدها، أما الفصائل الأقل وزنا فهي تتقاطع هنا أو هناك، وتمايزها لا يتمتع بثقل قلب الطاولة أو تجسير الخلافات . ففي أمريكا اللاتينية على سبيل المثال ظهرت قوى يسارية جديدة اطاحت بتسع سلطات يمينيه تابعه للمركز الامبريالي ، والبرازيل على الطريق ، وتجاوزت طروحات اليسار التقليدي . وفي فرنسا ظهر طراز يساري مختلف (ميلا شون الذي يحظى بتأييده 25% من الأصوات ). وهذا حال حركة فتح في البدايات التي اخترقت النسق السياسي ورسمت طريقا، وذات الشيء اليسار المقاتل قبل أن تنخره الأزمه وفي المقدمة الجبهة الشعبية، وحزب الله الذي دأب على خياره فأمسه كما راهنه بل وإمكاناته وفاعليته في تصاعد ملحوظ. وعلى رأي ماركس " الفاعلية" هي الفيْصل " أما الزبد فيذهب جفاء" .
لا مهرب من تسليط الضوء على بعض عناوين النهجين سالفي الذكر. ومنذ البدء خليق الاشاره أن قيادة كل منهما تعتبر نفسها على صواب سواء اختارت المقاومة وتفاصيل أخرى، آو التسوية وتفاصيل أخرى، ذلك أن الكتابات الإيديولوجية تجزم بأن من ينحاز لرؤية معينه إنما يعتقد أن انحيازه صائبا ، حيث تتداخل المصالح مع نمط التفكير.
جاء في استطلاع عشية " انتخابات التشريعي " 2021 أن نسبة تأييد فتح وحماس هو 32% -33%، ولم اطلع على استطلاع أخر بعدئذ، أي أن خيار التسويه بالتزاماته وخيار المقاومة بنتائجه يحظيان بنفس النسبة والأول " يحكم" الضفة والثاني " يحكم " غزة، وبذلك انتقل الجدل بينهما من التحليل إلي سلطة لها نخبها وأجهزتها وموازنتها...
ومن يعتقد أن السلطة في الضفة سوف تنتقل رسميا إلى خيار البندقية، فهل يضمن عدم حدوث سيناريو تشتيتها من اعتقال وإبعاد ووو... لا احد محصّن هنا حتى الشهيد أبو عمار الذي وقع اتفاق أوسلو وصولا إلى حجب الضرائب والجمارك والمساعدات بما يؤدي إلى تقزيمها وتفكيكها.
والذي يعتقد أن سلطة غزة سوف تسقط البندقية وتنحني سياسيا بالاعتراف والابتعاد عن تحالفاتها فهل يستبعد انفضاض غالبية قاعدتها واشتعال أزمة داخلية بين رموزها وخسارتها محور المقاومة في الإقليم خصوصا إيران التي تعلن جهاراً نهاراً تسليحها وتمويلها ..
فمثل هذه الاستدارة مدمرة سواء لسلطة الضفة أو لسلطة غزة، وهي بداهة على النقيض من قناعاتهما ومصالحهما ولخطابهما على امتداد سنوات وسنوات.
وعليه ينبغي الكف عن المطالبة بالانتقال من خندق إلى خندق فهذه تمنيات في عداد الوهم ، بصرف النظر عن قناعاتي الشخصية والسؤال هل يمكن أن تقوم قيادة بمراجعة نقدية لمسيرتها وتنتقل من خيار إلى خيار؟
من الناحية النظرية يمكن في حالة تنفذ جناح مغاير قادر على إطاحة الخط الرسمي ، وهذا مستبعد ذلك أن الدينامية داخل الفصائل تحت سيطرة القيادات القائمة وكل من يعارضها يمكن تهميشه ونبذه. والاحتمال النظري الأخر، أن يفشل هذا الفصيل أو ذاك ويعيد إنتاج فشله مرات إلى أن تبتعد البنية التنظيمية فلا يبقى أعضاء ولا أنصار ، حينها يمكن أن تيأس القيادة وتتنحى من تلقاء نفسها، وحتى أن حافظت على ألقابها فهي دون مسمى وبنية .
أما الاحتمال الثالث فهو حصول انعطاف جذري كهزيمة حزيران وولادة الفصائلية كتجديد للأحزاب السياسية أو استباحة استعمارية لا تبقى ولا تذر، بما يترك فراغا يمكن أن يحتضن مبادرات تجديديه.
أما التصور الرابع، ولا أقول الأخير، فهو أن يشتد الجدل بين أ+ب في الماهية الواحدة، فكل ماهية مكونة من أ+ ب وعناصر اقل وزنا، وهذا فهم فلسفي وعلمي في آن، إلى أن يبلغ الجدل درجة ولادة جديدة. وهذا احتمال ضئيل ذلك أن تاريخنا العربي منذ مئات السنين قمع الجدلية، ومن كنا متقدمين عليه أصبح متقدما علينا وجثم على صدورنا ويمكن القول ان احد أركان الوعي النقدي التغييري أن يسلح الناس بالأمل وبكل ما هو ايجابي على عكس الوعي المعادي الذي يبث الإحباط واليأسيه.
*** ************
في غير مقاله تابعت التحولات العالمية والإقليمية، وحسبي هنا التنويه أن عوامل الصراع في تعاظم، وان ألفلسطيني مجبر على الاصطفاف في خندق (القوى الصاعدة) لين بياو.
هذا من ناحية، أما الناحية الأخرى، فثمة انزياح نحو اليمين شارعا وحكومة وأحزابا وإعلاما وقضاء في الكيان الاستعماري الذي يستبيح فلسطين شعباً وأرضا وامناً... دون أن يخفي سياساته العنصرية التي تسعى لطرد الفلسطيني من الجغرافيا والتاريخ وفي أحسن الأحوال محوطته في مستعمره. فالفلسطيني هو " مجرد خطر امني" و"بلا قضية عادلة" وأسوة بشعوب الجنوب التي خضعت للكولونياليه ، (همجيه وكسوله وغير منتجه وكذابه وجاهلة ونساؤها جواري) بلغة فرويد.
أما الناحية الثالثة فتتلخص في تأجج الروح الوطنية الفلسطينية واتساع قاعدة المواجهة بإشكالها المختلفة ناهيكم عن قاعدة الارتكاز في غزة .
بناء على ما أسلفناه ثمة قاعدة ذهبية جامعة للفلسطينيين أينما كانوا ومن كل المشارب والتشكيلات، هي الوحدة الميدانية، سواء تجلت على صعيد محلي أو قطاعي أو أوسع بتكريس ما هو قائم على الأرض.وتوسيعه وبلغة ماوتسي تونغ (من الواقع إلى العقل ومنه إلى الواقع) فالأسرى موحدون والتحركات الشعبية موحدة وبؤر وفصائل المقاومة موحدة ، والقدس موحدة والغضب يتنامى من انفلات المستوطنين المستعمرين، والاستياء يتزايد من الحصار والفقر والبطالة وكل من هو على تماس بالعملية التعليمية ينتقد المنهاج التلقيني وانفصاله عن الاقتصاد وسوى ذلك من الاخلالات التي يمكن معالجة الكثير منها بلا خسارة لاحد.
أما الهدف الكبير فهو ترميم الأوضاع الداخلية تعزيزاً للصمود وأوراق القوة انتخاب وتشكيل مجلس وطني شامل هو المفتاح في سياق الوحدة الميدانية يأتي تاكتيك المجلس الوطني، فهو لا يشترط برنامجا سياسيا موحدا ولا قيادة موحدة، وشعبنا ناهز 14 مليون يتوزعون على ساحات وتجمعات عده، ورغم خصوصية كل ساحة فثمة أهداف مشتركة ومصير مشترك الأمر الذي يتطلب تشكيل مرجعية شاملة لكل التجمعات والساحات .
ولا خسارة هنا أما الفوائد فهي عديدة، أحداها انها تمهد لخطوات ابعد.
ولا يظنن احد أن انقسام متشعب ومديد تمخض عن صيرورة يمكن معالجته " بضربة قاضية"
ومهما يكن من امر فالمقاربة آنفه الذكر أنما تحاصر الرياح السلبية وتقطع الطريق على تحولها لعواصف، ولا ينبغي إنكار الوقائع ، فلسنا أكثر حصانة من شعوب أخرى أصيبت بجنون الصراع الداخلي.