من يوقف هذا الجنون الكوني ؟ كيف للبشرية التي دفعت كل هذا الثمن من الحروب أن تتجرأ بالعودة لهذا التاريخ بلا حساب ؟ يظهر أن غريزة الشر أقوى كثيرا لدى البشر من مفاهيم الإنسانية وقيمها، وتلك يبدو ليست أكثر من مجرد غطاء لنزعات كامنة تتجلى حقيقتها عند أول خلاف لتخرج أسوأ ما فيها وبأحدث ما لديها من أسلحة القتل.
دماء وأشلاء وتوابيت تعود من المعارك تستقبل بالدموع وتفتح آلاما لن يمحوها الزمن، ومجاعات واضطراب في الأسواق وأزمة طاقة.
ويحبس العالم أنفاسه خوفا من يوم قيامة يصنعه عبث البشر كلما تم التلويح بالسلاح النووي القادر على تحويل الكرة الأرضية إلى قطعة كبيرة من الفحم إذا ما جرى استخدامه، والتهديد بالقضاء على كل هذا المنجز الذي حققه الإنسان على هذه الأرض.
كل هذا لأن سياسيين من الهواة أو غير الإنسانيين يجلسون بعيدا عن المعارك وآلامها يديرون الحرب كأنها لعبة أتاري غير آبهين بما يحدث.
في عصر السلاح النووي ليس هناك مهزوم واحد يمكن محاصرته في عاصمته وأن يرفع راية بيضاء وحده، ففي عصر القنابل الذرية المحمولة على غواصات تجوب المحيطات ليس هناك ضربة واحدة تنهي الخصم، ومع استمرار تطور الحرب في أوكرانيا يبدو العالم كأنه يمكن أن يذهب بقدميه ليوم القيامة فالأطراف المتحاربة سواء مواجهة أو بالوكالة مسلحة بأسلحة الدمار جميعها فما العمل ؟
تشكلت المؤسسات الدولية التي كُلِّفت بتجنب الحروب في عصر الأسلحة التقليدية، وبات واضحا أن الزمن الذي تحرك تجاوز تلك المؤسسات. ومع تغيرات موازين القوى الدولية كان لا بد من البحث عن تشريعات مختلفة تتلاءم ومستجدات التاريخ، لكن من المنتصر في الحرب العالمية يصر على بقاء الكون متسمرا عند لحظة انتصاره.
أوروبا التي اخترعت كل هذه العلوم وكل تلك القوانين والقيم دارت وتدور على أرضها كل معارك الإبادة كيف ولماذا ؟ تلك أحجية، وأميركا التي أعادت صياغة القوانين الدولية وفك وتركيب مؤسساتها لضمان عدم تكرار الحروب وضمان عدالة دولية أكثر دولة خاضت حروبا خارج القانون الدولي، وأكثر دولة تدوس العدالة الدولية كيف ولماذا ؟ تلك أحجية أخرى. نموذج احتلال فلسطين والعراق الخالي من النووي والكيماوي وعدد استخدامها للفيتو للتغطية على دولة محتلة نماذج ستظل تصم التاريخ الأميركي وتضعف من قوة المؤسسات الدولية ومصداقيتها وتدفع الآخرين للخروج على قواعدها باعتبار أن أميركا تقدم نموذج الانفلات والخروج على القواعد والقوانين.
أوروبا وجدت نفسها تغرق في اضطراب اقتصادي وتهديد للرفاه الذي استهلك عقودا من عمر التنمية وتحضر نفسها لشتاء قاسٍ، والأهم باتت عواصم تتحسب لجنون السلاح النووي، وهي القارة التي قالت وداعا للحروب بعد أن خرجت محطمة تماما قبل أقل قليلا من ثمانية عقود معتبرة أن تلك آخر الحروب ولم يعد السلاح والمعارك أولوياتها بل الاقتصاد ورفاهية المواطن.
وبعد أن نجحت في تغيير مسار التاريخ من صراعات دامية إلى اتحاد أوروبي شكل نموذجا للتعاون بديلا عن الصراعات تعود فجأة لتلك المناخات ولتعود بعد كل هذا وبسؤال «تلويح بوتين للسلاح النووي هل هو محاولة خداع أم تهديد لرجل يائس».
المعادلة أكثر صعوبة مما يعتقد مخططو الحروب. فكل ذلك كان يصلح لحروب كلاسيكية أما حين تتسلح الدول بأسلحة غير تقليدية لا تصلح معها نماذج التاريخ ومدارسه السابقة وصراعاته لأنه في تلك الحالة ممنوع أن ينهزم المهزوم لأن هزيمته تعني اختيار البشرية لخيار شمشون، وهذا خط أحمر للإنسانية ووجودها وتراثها البشري فماذا لو استمرت الحرب واستمرت الولايات المتحدة وشركاؤها في دعم أوكرانيا بأحدث الأسلحة المتفوقة. وماذا لو شارف بوتين على الهزيمة ماذا سيفعل حينها ؟.
كانت الحكمة الفرنسية تتجلى مبكراً في حزيران الماضي حين تبدى أن الحرب لم تنتهِ مبكرا وستتحول إلى صراع إرادات كونية وإدراكها حجم الخطر لما تملكه هذه الإرادات العظمى من أسلحة دمار. وتجليات حكمة التاريخ الأوروبى الذي دمر نفسه مرتين تجلت على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حين قال: «يجب عدم إهانة روسيا»، لأنه يعرف عواقب تلك الإهانة ليس فقط على العواصم الأوروبية بل على البشرية جميعا التي يعتمد معظمها على أوروبا ليس فقط بالقمح والغاز بل بالكثير من متطلبات الحياة البشرية.
بات واضحا سير المعارك كلما تراجع الأداء الروسي في الميدان يبرز الحديث عن السلاح النووي. وتلك مسألة معروفة مسبقا منذ أن لوحت موسكو بسلاحها قبل بدء الحرب وجميعنا يعرف أنه لو كان لدى هتلر سلاح نووي لما انهزم أو لكانت الهزيمة له ولخصومه جميعا. فالحرب الآن مختلفة تتطلب استدعاء حكمة التاريخ كلها وما راكمته التجربة البشرية من عقلانية متنورة بعيدة عن صراعات قديمة بعقول متخلفة لحسن الحظ أن أسلحتها كانت بدائية قياساَ بأسلحة الحاضر المدمرة.
أوروبا المتضرر الأكبر من الحرب عليها أن تغير سياستها التي اتبعتها وخصوصا بعد مشاهدتها للتعمد في تخريب خط نورد ستريم كي تظل المتضرر الأكبر في ظل بقاء عواصم مثل واشنطن وبكين وموسكو بعيدة عن المعاناة، عليها أن تتدارك الأمر وخاصة أن كل قصة الناتو لم تعد تعنيها بعد أن قررت أن تكون الحرب العالمية الثانية آخر الحروب وانتقلت للاقتصاد والرفاه والوحدة، عليها أن تستعين بالصين فالثنائي الأوروبي الصيني حين يتصرف بعقلانية يمكن أن يضع حداً لحرب بات واضحاً أن تطور مسارها يشكل خطراً كبيراً سواء انتصر بوتين فأوروبا متضررة أو انهزم فهي أمام كارثة وفي تلك المعادلة عليها أن تبحث عن حل وسط عنوانه كما قال ماكرون «يجب عدم إهانة روسيا» أو كما تقول الحكمة الصينية: «حافظ على ماء وجه عدوك» لأنه حينها إن لم تفعل سيتحول إلى ثور هائج ويستخدم كل أسلحته، هل يفهم العالم أم أن كل التجربة البشرية قد تنتهي أمام نزوات جنون السياسة وعبثها؟
متى وكيف ستنتهي هذه الحرب الإبادية؟
14 أكتوبر 2024