غرق وموت ووجع هذا هو حال الكثير من شباب قطاع غزّة الذي هاجر منها بحثاً عن حياةٍ كريمة، فعلى متن "مراكب الموت" يُهاجر عشرات الشباب إلى دول أوروبا كاليونان وغيرها، مُعرضين أرواحهم وأنفسهم لخطر الغرق في أيَّة لحظة، فعدم الاستقرار وانعدام الحياة الاقتصادية جعلت شبابًا في مقتبل العمر يُفكرون بهجرةٍ قد تُنهي حياتهم وتُدرج أسماءهم في لوائح المفقودين أو الموتى.
مَأْساة حدثت مراراً وتكراراً مع شبابٍ يخرجون من قطاع غزة على أقدامهم ويعودون داخل صناديق خشبية، حيث تُدفن أجسادهم ومعها أحلامهم وآمالهم التي يراها البعض مستحيلة.
من محطات رحلة الهجرة الصعبة هي الانتقال من تركيا إلى اليونان، عبر الغابات المخيفة التي تمتد على حدود الأراضي اليونانية، أو عبر نهر "إيفروس" وبحر "إيجة"، لكِن الأكثر مأساوية هو أنّ يتحول بعضهم إلى مفقودين.
ومن القصص المأساوية التي لم نجد لها تفسيراً واضحاً حتى اللحظة هي حادثة إختفاء أكثر من أحد عشر مُهاجراً جُلهم من الفلسطينيين، وهم "رائد مبروك، زياد راضي، محمد الحساسنة، محمد اسعيد، محمد البحيصي، محمد تميم، محمد النجار، محمد طعمة، الشقيقين عمار ومحمد العمور، طارق بلوط".
وبالعودة إلى أصل الحكاية، فبتاريخ 27-3-2019 خرج مجموعة من الشبان المتواجدين في تركيا قاصدين منطقة "فتحية" على الساحل التركي، وهي نقطة انطلاق الرحلات الغير شرعية إلى الأراضي اليونانية، بعد أنّ أخبرهم المهربين بموعد انطلاق مركبهم في تلك الليلة، حيث اجتمعوا في مكان حُدد لهم من قبل المهربين وقبل أنّ يقوموا بإغلاق هواتفهم اتصلوا بأهلهم ليُخبروهم أنّه بعد ساعات قليلة سيتوجه بهم المركب إلى إحدى الجزر اليونانية، وكانت الأمور تسير بشكلٍ طبيعي ولم يكن يتوقع أحد من هؤلاء الشباب أنّهم سيكونوا في عداد المفقودين.
صورة المفقود: رائد مبروك
مؤمن ابن شقيق المفقود رائد مبروك، تحدث مع مراسلة وكالة "خبر"، عن الدوافع التي دفعت عمه يُغادر قطاع غزة تاركاً أولاده وزوجته في ظروفٍ صعبة، حيث قال: "إنَّ الوضع الاقتصادي السيئ في غزّة هو الذي أجبر عمي على الهجرة، خاصةً أنَّ فُرص العمل تكاد تكون شبه مستحيلة، فعمي مثله مثل بقية الشباب أراد أنّ يعيش حياة كريمة ويؤمن مستقبل أولاده المجهول في غزّة، فتحمل مرارة الفراق ووجع الغربة وغادر وطنه، لينتقل من واقعٍ مجهول إلى مستقبل مجهولٍ أيضاً".
وأضاف: "كنا على اتصالٍ شبه يومي مع عمي حتى تاريخ الرحلة، فقد انقطع الاتصال به ولم نعلم عن مصيره شيء، وقد تواصلنا مع ذوي المفقودين وجميعهم فقدوا الاتصال بأبنائهم في تلك الليلة، بل إنَّ بعض الروايات أفادت بأنَّ القارب لم يُبحر في تلك الليلة، وحدث إطلاق نار كثيف على سواحل فتحية التركية، ومن بعدها اختفى الجميع".
وأكمل: "وصلتنا أنباء أخرى تُفيد بالعثور على جثمان الشاب محمد البحيصي، وهو من سكان دير البلح، وذلك بالقرب من منطقة فتحية وقد أصيب بطلق ناري في ظهره، وهذا ما نفته الجهات الرسمية في بادئ الأمر وقالت إنّه توفي غرقًا ولا وجود لأيّ رصاصات في ظهره، لكِن المهم هو أنَّ محمد وُجد غريقاً"، مُتسائلاً: "لنفترض أنَّ الرحلة خرجت كما هو مخطط لها وغرقت في عرض البحر، فهل يُعقل أنّ يتم العثور على جثة محمد فقط؟، وأين حطام القارب وأمتعة الشباب في حال افترضنا أنّ أسماك القرش قد ابتلعتهم؟".
وأشار مؤمن، إلى أنَّ القارب الذي كان من المخطط أنّ ينقل الشباب هو موجود حتى اللحظة وينقل المهاجرين، مع اختفاء المسؤولين عن الرحلة فقط، بعد أن أغلقوا هواتفهم دون معرفة أحد بمكان تواجدهم.
صور المُهربين والقارب
وأكّد مؤمن مبروك، على أنّهم لم يتركوا مسؤولاً أو سفارة أو شهود عيان إلا وتواصلوا معهم، بل سافر هو أيضاً إلى تركيا للبحث عن عمه، لكِن لا معلومة مؤكدة حوله، فالروايات تعددت وأصبح البحث عنهم مستحيلاً.
الشقيقان المفقودان محمد وعمار العمور
كذلك من بين الشباب المفقودين، شاب سوري وأخيه ذو التسع أعوام، عمار ومحمد العموري، اللذان خرجا من سوريا هرباً من الأوضاع هناك، وانتهى بهما الحال إلى المجهول.
والدتهما التي يتملكها الحزن والوجع، قالت لمراسلة وكالة "خبر": "إنَّ عمار اتصل بي في تلك الليلة ليُخبرني بأنَّ الرحلة ستنطلق بعد ساعات قليلة فأوصيته بأخيه كثيراً، وأنّ يتصل بي بعد الوصول للأراضي اليونانية مباشرة لطمأنتي عليهم، فوعدني أنّ يأخذ بما قلت، ومنذ تلك الساعة وحتى اللحظة وأنا أنتظر اتصال عمار، ومرت 3 سنوات وعمار لم يتصل بعد".
وأردفت: "كان من المفترض أنّ ينطلق المركب بعد منتصف تلك الليلة، وأنّ يصل تقريباً الساعة السابعة صباحاً، لكِن للأسف مرت الساعة تلو الأخرى ولم يتصل بي أبنائي، فقمت بالاتصال بهم وكانت الساعة تُشير إلى الحادية عشر صباحاً، فقام الهاتف بإعطائي إشارة بأنّه مفتوح ولكِن لم يُجبني أحد، وبعد محاولة ثانية تم إغلاق الهاتف نهائياً، فخشيت أنّ يكونوا قد وقعوا بين أيدي حرس الحدود اليوناني، فاتصلت بأرقام المهربين الذين تركهم لي ابني ولكن هواتفهم كانت مُغلقة أيضاً، علماً بأنَّ المُهرب لا يكون معهم على نفس القارب، بل يقوم بمتابعة سير القارب عن بُعد، عن طريق الـ GPS".
وأضافت أم عمار: "لم نكل ولم نمل بالسؤال عنهم، ولم نترك باباً إلا وطرقناه، لكِن لا أحد يعلم ما حدث مع أولادي ورفاقهم، هل هم غادروا الأراضي التركية وغرق بهم القارب أم لا، أم أنّه تم القبض عليهم قبل الانطلاق، فلا يوجد معلومة دقيقة عن مصيرهم".
السفارة: لا معلومات لدينا عن مصير المفقودين
وفي اتصالٍ هاتفي مع سفير فلسطين لدى تركيا، فائد مصطفى، وجّهت معدة التقرير له سؤالاً عن مفقودي 2019، وإنّ كان لدى السفارة أيّ معلومات من الجهات التركية حولهم أم لا، فقال: "لا يوجد لدينا معلومات عن تلك الرحلة، مع العلم أنّه من غير المسموح للسفارة أنّ تسأل عن الرحلات الغير شرعية، فهي بدون سجل رسمي من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنَّ دور السفارة لا يشمل التدخل في أيّ موضوع يتعلق بالرحلات الغير شرعية، ولكِن من منطلق واجبنا الوطني والإنساني قمنا بالبحث والتحري مع الجهات التركية لمعرفة مصير أبنائنا، خصوصاً بعد العثور على جثة الشاب محمد البحيصي بعد 10 أيام من انطلاق رحلتهم، إلا أنَّ السلطات التركية لم تتمكن من حل اللغز، وأكّدت لنا أنّها لم تُلقي القبض عليهم وليسوا موجودين ضمن سجلاتها في السجون".
وشدّد السفير مصطفى، في حديثه لمراسلة وكالة "خبر"، على أنَّه لن يبخل بأيّ معلومة أو جهد في العثور عليهم، لكن جميع الطرق لمعرفة مصيرهم مغلقة حتى اللحظة.
تجدر الإشارة إلى أنَّ خلافاً وقع بين المُهربين قبل انطلاق الرحلة، وذلك حول وقت وتكلفة نقل الركاب، وهو الأمر الذي يزيد من قلق ذوي المفقودين، بأنّ يكونوا قد اختلفوا قبل صعود الشباب على متن القارب، وأنَّ إطلاق النار الذي سُمع في تلك اللحظة، ناجمٌ عن خلافٍ بينهم وكان ضحيته هؤلاء الشباب، وأنّهم قاموا بإخفاء جثامينهم.
ومع تعدد الروايات ما بين أنّهم قُتلوا من قبل المهربين أو غرقهم في عرض البحر أو وقوعهم أسرى في أيدي حرس الحدود اليوناني أو الجندرمة التركية، يبقى مصيرهم مجهولاً حتى اللحظة، وأعين ذويهم تشخص إلى السماء لمعرفة مصير أبنائهم، حتى وإنّ كان الموت الذي سيكون أهون بكثير من الانتظار والترقب.
يُذكر أنّه حتى اللحظة لا توجد إحصائية دقيقة لعدد ضحايا الهجرة لدى الجهات الرسمية، إلا أنَّ الأعداد أصبحت في تزايد خلال هذه الفترة، بسبب خطورة الطرق التي يسلكونها ليدفعوا في سبيل ذلك أعمارهم موتًا في البحر أو في الغابات.