من المهم رؤية المظاهر التي بات عليها الوضع الفلسطيني الراهن بعد مسيرة تسعة وعشرين عاما من توقيع اتفاقية اوسلو، والتغيرات التي حملتها على الصعيدين السياسي، والاجتماعي الاقتصادي، بما في ذلك التغيير في الهيكل الاجتماعي الفلسطيني ومركباته وما انطوى عليه من تغيرات ذات مضامين طبقية متنوعة، بالإضافة إلى التغير الضخم الذي حملته ولا تزال حالة الانقسام الفلسطيني.
ان هذه المقالة المكثفة تتعرض إلى حالة التعاطي مع التحديات الوطنية الراهنة التي يفرضها الاحتلال، ونعني بها بشكلٍ خاص تصاعد العدوانية الإسرائيلية المتزايدة ضد الشعب الفلسطيني والتي تتمثل في زيادة العدوانية العسكرية والأمنية من جيش الاحتلال ومستوطنيه من جهة، وفي ذات الوقت توسيع تدخلات "الادارة المدنية" الاسرائيلية وإعادة التواصل المباشر من قبلها مع الجمهور الفلسطيني من الجهة الأخرى، وكل ذلك في ظل الرفض الاسرائيلي الواضح لإنهاء الاحتلال، واستبداله في الواقع بتطبيق "صفقة القرن" واجهاض اي افق سياسي للحل القائم على تنفيذ قرارات الامم المتحدة.
ولا شك ان هذا الانكشاف في علاقة الاحتلال المباشرة بشقيها العدواني والمدني الإسرائيلي مع الشعب الفلسطيني، ولد ويولد من الوجهة الأخرى مقاومة باسلة ومتحدية للاحتلال من قبل الشعب الفلسطيني ومن قبل أوساط الشباب فيه بشكل خاص في معظم المناطق تقريبا، وأيضاَ تفاعلا مع "التسهيلات" أكثر من أية فترات سابقة.
إن حالة تعاطي الأطراف المركزية الفلسطينية مع هذه التحديات تتطلب تعديلا جذريا، فواقع هذا التعاطي يغلب عليه الميل إلى (الحياد) بدلا من تعزيز (الانخراط) في مواجهة هذه التحديات، ونعني هنا في الأطراف المركزية كلا من السلطة الفلسطينية (بشقيها) في الضفة وغزة، ومنظمة لتحرير الفلسطينية، ثم القوى والفصائل الفلسطينية، وبدرجات أقل يمكن انسحاب ذلك على مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني بهذه الدرجة او تلك.
ويساعد الموقف الفلسطيني بالتأكيد على الطبيعة الصراعية للعلاقة مع الاحتلال، بوصفها علاقة بين شعب محتل ودولة احتلال، والتخلص من الالتباسات التي طبعت هذه العلاقة نتيجة الاتفاقات مع إسرائيل وما ترتب عليها من التزامات، يساعد على تعزيز (الانخراط) من قبل كل الاطراف المركزية في الصراع والتخلص بشكل كامل من ميول (الحياد) بغض النظر عن اية تبريرات او انكار لذلك.
إن هذه الأطراف رغم التفاوت بينها كمكونات وبين أطرافها في كل مكون ، انزاحت بشكل منهجي متزايد نحو (الحياد) في هذا الصراع بشقيه العدواني الأمني، والمدني الاسرائيلي، بدلاَ من تعزيز (الانخراط) الذي يشكل هدف وجود هذه الأطراف جميعا كمجاميع وكمكونات في كل مجموع.
يسعى الاحتلال للتعامل مع السلطة الفلسطينية وفقا لخيارين، أما الحياد من قبل السلطة في تعامل الاحتلال مع (متطلباته) الأمنية وتسهيلاته المدنية، أو التعاون معه في تحقيقها بهذه الطريقة او تلك بما فيها غض النظر عنها وتقليص مستوى رد الفعل تجاهها، وبالنسبة لسلطة غزة فانه يمارس ذات الضغط على قاعدة (الأمن مقابل التسهيلات).
وبغض النظر عن مدى التوقعات التي يتوخاها الاحتلال من ذلك والتي تعيقها طبيعة الجذور الوطنية والسياسية لمركبات السلطة إلا ان الاحتلال يهدف الى زيادة (الحياد) من هذه الأطراف كحد أدنى ولا يتورع عن الضغط والمجاهرة بوقاحة من اجل ان تقوم السلطتان بتنفيذ مطالباته الخاصة في كل من الضفة من جهة وغزة من الجهة الأخرى.
وبرغم التفاوت في وضعية السلطة بين كل من الضفة وغزة، إلا ان المسعى الإسرائيلي المنهجي (للتحييد) هو مسعى مستمر ومتواصل وتسانده في ذلك التدخلات الخارجية من الولايات المتحدة أساساَ ثم أيضاَ من الدول الإقليمية المنخرطة في الشأن الفلسطيني وأبرزها تركيا وقطر والامارات، بالإضافة إلى كل من مصر والأردن اللتان تتميزان بوضعهما الخاص مع القضية الفلسطينية.
في مقابل حالة (التحييد) بغض النظر عن درجته، فان المهم وقف هذا الاتجاه والتركيز على (الانخراط) كبديل موضوعي وإلزامي لمنع تكريس (التحييد) بصورة مقصودة أو غير مقصودة، و(الانخراط) هنا ليس أمراَ مستحدثاَ أو طارئاَ، فهذا هو مضمون دور الحركة الوطنية وكل مركباتها وهو مضمون دور منظمة التحرير التي قادت الثورة الفلسطينية المعاصرة، والدور المفترض للسلطة الفلسطينية باعتبارها جزءا منها وباعتبارها سلطة (انتقالية) تأسست وفقا لذلك.
ومن الواضح ان ضعف (الانخراط) وتراجعه حكمتهما عوامل مختلفة بما فيها عوامل موضوعية ولكن أمر تغيير الاتجاه وتعزيز (الانخراط) محكوم بالإرادة السياسية وبالقرار السياسي والذي لا يخلو من صعوبات ولدتها المصالح والرؤى المختلفة في مراكز القرار المتنوعة.
إن (الانخراط) يحمل ترجمته عبر مظاهر وآليات متنوعة يعززها الوعي والمثابرة والمسؤولية الوطنية، ومنطلقها الأساسي الانحياز إلى الشعب والعمل في أوساطه وتلبية متطلبات صموده وعدم السماح بتركه وحيدا أو بمبادراته الذاتية في مواجهة عدوانية الاحتلال أو سياساته الاقتصادية، بل قيادته وتنظيم هذه القيادة من اجل تحقيق الأهداف المشروعة لشعبنا في التحرر والاستقلال والعودة.
إن الإطار العام المذكور في هذه المقالة لا يعني مساواة الأطراف فيما ذكر فيها من اتجاه عام، فهناك مستويات مختلفة وتباينات بذلك، إلا ان الحقيقة تؤكد انه بمقدار انزياح كل طرف وكل مركب من مركبات البنية السياسية الفلسطينية نحو تعزيز هذا (الانخراط) بمقدار ما يبرر وجوده الفعلي والقيادي للشعب الفلسطيني، وهو بذلك يقطع الطريق على أوهام الاحتلال بتكريس حالة (الحياد) او التمادي فيها إلى حد المطالبة (بانخراط) معاكس تحت سيل من المسميات والذرائع المختلفة.
إن الطبيعة الصراعية للعلاقة مع اسرائيل بين شعب محتل ودولة احتلال، والتخلص من الالتباسات التي طبعت هذه العلاقة نتيجة الاتفاقات مع إسرائيل وما ترتب عليها من التزامات، يفرض في الواقع تعزيز (الانخراط) والتخلص بشكل كامل من وهم (الحياد) بغض النظر عن اية تبريرات أو انكار لذلك، كما يفرض التمسك بهذا الموقف وعدم السماح بتمييعه او التراجع عنه.