مدخل: تحاجج هذه المقالة بأن الحالة القائمة في فلسطين كلها من النهر إلى البحر هي حالة استيطانية استعمارية ( تشمل الاستعمار الداخلي في فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨) كجوهر ، مغلف ببعض مظاهر الابارتهايد كمظهر وثيق الصلة بالجوهر المذكور ولا وجود له بدونه، تمارسه دولة استيطانية استعمارية توسعية ، وفي فلسطين المحتلة عام ١٩٦٧ ينضاف مكون ثالث هو الاحتلال الحربي القائم على خدمة الاستيطان الاستعماري حيث يقوم الجيش الاسرائيلي بعمليات نقل وترحيل الشعب الاصلي من مكان إلى آخر ، ويقوم بعمليات مصادرة الاراضي بأوامر عسكرية ، وتنفيذ هذه العمليات، كما والمساعدة في عمليات إنشاء المستوطنات الاستعمارية وحمايتها ، تماما كما لا تزال تقوم بذلك الشرطة وجهات إنفاذ القانون الاسرائيلي الأخرى في النقب .
ترى المقالة أن هذا الثلاثي المتكامل من استيطان استعماري و ابارتهايد واحتلال حربي ، مفتوح على احتمالين : الأول هو عملية طرد جديدة للشعب الفلسطيني كما حصل في عامي ١٩٤٨ و ١٩٦٧ تمهد لها عمليات الطرد الجارية داخليا في غور الأردن ومناطق من الخليل والقدس والنقب . والثاني : هو انتقال هذه الثلاثية إلى حالة ابرتهايد من إعلاء عرق فوق آخر، وقائمة كما في حالة الابارتهايد الجنوب افريقية السابقة على الاستثناء السياسي والتراتبية في درجات المواطنة والتهميش الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي والتنمية المنفصلة . سيكون هذا الانتقال إن حدث خطوة نوعية إلى الأمام عن الوضع الحالي حيث أنها ستعني أن مشروع الطرد والترحيل قد تم اقفاله، وحل محله مقدمات للكفاح الديمقراطي المشترك من أجل المساواة الكاملة في اطار دولة واحدة تقوم على كل البلاد. ترى هذه الورقة أن الادعاء بانتقال الحالة في فلسطين إلى حالة الابارتهايد من الآن يؤدي عكس ما يظهر من حماس لذلك للوهلة الاولى إلى إعفاء دول العالم من مسؤوليتها تجاه وقف وإنهاء المشروع الاستيطاني الاستعماري على أرض فلسطين ، وكذلك إعفاءها من مسؤوليتها لدعم الكفاح الفلسطيني الجاري على الأرض ضد الاستيطان الاستعماري . وترى أن الانتقال من الحالة الثلاثية الراهنة إلى حالة ابارتهايد يحتاج إلى جهد كفاحي شعبي كبير لوقف العمليات الاستئصالية الإقتلاعية اولا كشرط لهذا الانتقال الذي سيكون له إن تم ما بعده من كفاح مشترك من أجل دولة ديمقراطية واحدة كاملة الحقوق على أراضي كل فلسطين التاريخية.
نماذج الاستيطان الاستعماري : مقارنة موجزة
لا تجسد إسرائيل حالة دولة ما بعد كولونيالية ( Post- Colonial State) لعدة أسباب، فهي أولا دولة لم تنشأ نتاجا لكفاح حركة تحرر وطني على أرضها ، بل جاءت كنتاج لاستقلال مستوطنين مستعمرين عن دولتهم الأم بريطانيا فوق أرض لم تكن أرضها. وهي ثانيا دولة توسعية وليست دولة عادية ذات حدود مقررة في قوانينها، وهي ثالثا دولة لا تلتزم بالقرارات الدولية ومنها قرارا الجمعية العامة للأمم المتحدة ١٨١ و ١٩٤ لعامي ١٩٤٧ و ١٩٤٨ حول اقامة الدولة الفلسطينية إلى جانبها ، وعودة اللاجئين الفلسطينيين ، ولا بقرار الجمعية العامة اللاحق رقم ٢٧٣ الذي قبل اسرائيل عضوا في الأمم المتحدة مشترطا ذلك بتنفيذها للقرارين ١٨١، و ١٩٤. ورابعا : هي دولة استمرت في ممارسة التوسع فعليا بدءا من ممارسته بحق الفلسطينيين في الداخل ممزوجا بممارسات الاستعمار الداخلي و الابارتهايد المعبر عنهما بمصادرات الأراضي والترحيل الداخلي في النقب والمثلث والجليل، المرتبطة بكل قضايا التهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي وإعطاء الأولوية لليهود في قوانين الدولة وبناها السياسية والاقتصادية والاجتماعية . ثم لحقت ذلك بعد عام ١٩٦٧ بممارسة الاستيطان الاستعماري المكثف فيما تبقى من فلسطين التي احتلتها في ذلك العام بحيث وصل عدد المستوطنين المستعمرين إلى ما يقارب ال ٧٠٠ ألف حاليا حسب المعطيات شبه المتطابقة لجهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني وتقارير حركة السلام الآن. وهناك خطط لرفع العدد الى مليون خلال السنوات القليلة القادمة . يستند هذا الاستعمار الاستيطاني إلى دعم احتلال حربي ، كما أنه يترافق مع ممارسة مظاهر ابارتهايد تعمل تحت غطاء الاستيطان الاستعماري، وتمارس الدولة الاسرائيلية ذاتها هذه الثلاثية وتدعم مباشرة حركات غير دولانية ( Non - State Actors ) مثل حركة غوش ايمونيم ومجلس " يشع" الاستيطاني الاستعماري ، وتتنافس الأحزاب الاسرائيلية على دعم الاستيطان الاستعماري وتزايد على بعضها البعض حول من هو منها الأكثر ولاء لهذا المشروع.
يتضمن علم الاستعمار المقارن نوعين من النماذج الكولونيالية : الأول يقوم على الاحتلال العسكري واستغلال موارد البلاد المحتلة وايديها العاملة من أجل الحصول على فائض القيمة من قبل دولة المركز القائمة بالاحتلال . أما الثاني فهو الاستيطان الاستعماري الذي يقوم على الاستئصال ( وهي ترجمتي لكلمة elimination متجاوزا كلمة المحو التي يستخدمها كتاب آخرون لترجمة نفس الكلمة ) والإحلال . ويتخذ الاستئصال اشكالا مختلفة تبدأ بالابادة الجسدية( حالة امريكا و استراليا وغيرهما ) ، أو الاستئصال الديمغرافي ( روحانا: سنوات متعددة ) مترافقا مع التطهير العرقي ( بابيه ٢٠٠٧)، والتطهير المكاني ( حنفي ٢٠١٢ و ٢٠١٣). وكذلك اشكال اخرى منها الاستئصال السياسي ( نكران وجود شعب معين أو إنكار حقه في تقرير المصير والحق في الدولة والسيادة )، والاستئصال الاقتصادي ( عبر رفض الحق في إنشاء اقتصاد أو إنشاء اقتصاد مستقل )، والاستئصال الاجتماعي ( عبر تبديد المجتمع عن أرضه وتجزئة وشرذمة البقايا منه على أرضها ) والاستئصال القانوني، واستئصال التاريخ والذاكرة والهوية والتغيير الكامل للمكان والإقليم والفضاء والمشهد.
وفي الأدبيات يتخذ الاستيطان الاستعماري عدة أشكال : أولها هو المستعمرات الخالصة القائمة على تشغيل المستوطنين المستعمرين فقط ، والثانية المستعمرات المختلطة التي تشغل الأيدي العاملة المحلية، والثالثة هي مستعمرات المزارع حيث يجري استيراد عمال من الخارج للعمل فيها ( فيلدهاوس ، ١٩٦٦، وفريدريكسون ، ١٩٨٨). وقد اضاف شافير نموذجا رابعا هو نموذج مستعمرات المزارع الاثنية الذي يختلف عن المزارع المختلطة بأنه ينطوي على فصل عرقي تام بين العمال وأصحاب العمل ( شافير ، ٢٠٠٢). انطوت التجربة الاستيطانية الاستعمارية الأمريكية على استخدام لنماذج المستعمرات الخالصة ، والمزارع ( عبر جلب الزنوج من الخارج للعمل في المزارع) . أما في جنوب أفريقيا فقد اعتمد السادة البيض أكثر على الأيدي العاملة المحلية في مستعمرات المزارع المختلطة ، أي أن الشعب الجنوب افريقي بقي على أرضه مما هيأ الفرصة للكفاح من أجل تحويل النظام . وفي حالة الاستيطان الاستعماري الصهيوني اعتمدت نماذج المستعمرة الخالصة وطرد الشعب الاصلي من المزارع في أوقات مختلفة كما طرد من البلاد عامي ١٩٤٨ و ١٩٦٧ ، كما استخدم نموذج المزارع الاثنية باختلاف عن نموذج المزارع المختلطة الذي استخدم في جنوب افريقيا . هناك أدى نموذج المزارع المختلطة إلى نشوء فرصة لكفاح مشترك من أجل تغيير النظام ، أما هنا فإن الفصل الاثني في أماكن العمل هو السائد ، وهو ناتج عن طابع الصهيونية الاقصائي ( أرض اسرائيل حق حصري لشعب إسرائيل )، وللحلول محل الشعب الآخر مما منع نشوء فرص لتفاعلات يترتب عنها رؤية مشتركة لمستقبل واحد وبالتالي كفاح مشترك من أجل ذلك كما حصل في جنوب افريقيا.
" التسويات والانسحابات الاسرائيلية" : نقيض للمقاربة الاستيطانية الاستعمارية ؟
لا تسير المشاريع الاستيطانية الاستعمارية في مسارات مستقيمة ، فهي تستخدم في سياق عملها اساليب مختلفة تتضمن أشكالا مختلفة من القوة الخشنة والقوة الناعمة ، وتتضمن أساليب القوة الناعمة المراوغة ، واخفاء الأجندة إلى حين نضوج الظروف المواتية للإفصاح عنها، وسمى المسيري هذه الظاهرة "بالطبيعة الاسفنجية للمشاريع الاستيطانية الاستعمارية" ( المسيري ، ١٩٩٧) ، والمفاوضات والاتفاقيات المؤقتة مع الضحايا، والانسحابات الظرفية والمؤقتة والتي يتم التنصل منها والتراجع عنها عند أول فرصة .
في إطار ما سبق يمكن فهم المفاوضات الاسرائيلية مع فلسطين على أنها لم تكن سوى لعبة علاقات عامة لكسب " وقت مستقطع" ( Time out ) لتوسيع المشروع الاستيطاني الاستعماري في نطاقها كما عبرت عن ذلك مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية الامريكية السابقة سيما أن هذه الاتفاقيات تضمنت تأجيل قضايا القدس والاستيطان واللاجئين والحدود والمياه لما أطلق عليه إسم " مفاوضات الوضع الدائم" التي كان يفترض أن تنتهي عام ١٩٩٩. كما يمكن فهم أن الاتفاقات التي تمت في إطار هذه المفاوضات عرضة للنقض من الطرف المتحكم بالأرض والبلاد بمجرد التوقيع عليها ، وفي نطاق ذلك فإن أي انسحابات لا يمكن أن تكون أكثر من انسحابات ظرفية يمكن العودة عنها في أي وقت.
وفي الواقع لا يجد المرء كلمة انسحابات في نص الاتفاقيات الفلسطينية الاسرائيلية ، بل يعثر على ما أطلق عليه اسم " إعادة تموضع القوات : Redeployment of forces “ أو إعادة انتشارها ، كمصطلح عسكري يشمل ايضا حق الجيش الاسرائيلي في اقتحام المناطق التي تموضع خارجها في أي وقت بذرائع أمنية كما جاء في الاتفاقيات . ومن جهة أخرى فقد أبقت الاتفاقات الارض تحت السيادة الاسرائيلية فيما نقلت المسؤولية عن السكان فقط إلى السلطة الفلسطينية وذلك في مناطق أ و ب وحسب، فيما بقيت المسؤوليات عن الارض والسكان معا بيد إسرائيل في مناطق ج من الضفة الفلسطينية ، وجرى أيضا تقسيم الفلسطينيين وفق صيغ مختلفة من الاقامة التي هي كلها دون الاعتراف بمواطنتهم ، فالفلسطينيون في القدس ظلوا يعتبرون بعد أوسلو على أنهم " مواطنون اردنيون مقيمون في ارض إسرائيل " ولاحقا " مواطنين غير محددي الهوية مقيمون في أرض اسرائيل "، وفلسطينيو الضفة اصبحوا بعد أوسلو " مقيمون فلسطينيون في أراض متنازع عليها " وبعد صدور قانون القومية عام ٢٠١٨ صار ينظر إليهم على أنهم " مقيمون فلسطينيون في أرض اسرائيل ". وحدهم الغزيون نظر إليهم بعد أوسلو على أنهم " مقيمون فلسطينيون في اراضي السلطة الفلسطينية " ( سالم ، ٢٠١٨).
منذ أوسلو تمت عدة عمليات لإعادة انتشار للجيش الاسرائيلي خارج المدن الفلسطينية ، كان أولها اعادة الانتشار خارج قطاع غزة ومدينة أريحا عام ١٩٩٤، واعادة الانتشار خارج المدن الفلسطينية في الضفة ما عدا مدينة الخليل بعد اتفاق أوسلو ll في نهاية عام ١٩٩٥ ، ثم اعادة الانتشار من جزء من مدينة الخليل ( H1) بعد توقيع البروتوكول الخاص بمدينة الخليل عام ١٩٩٧، وكانت تلك آخر عملية إعادة انتشار تمت بالتوافق بين الطرفين ، حيث وقع نتانياهو اتفاق واي ريفر مع ياسر عرفات عام ١٩٩٨ متضمنا إعادة الانتشار خارج ما يزيد قليلا عن ١٣ بالمئة من المنطقة ج في الضفة ، ولم ينفذ نتنياهو ذلك ، كما لم تنفذه كل حكومات اسرائيل حتى اليوم . عنى ذلك أن مقايضة ما بدى على أنه " الارض مقابل السلام " التي بدأت عام ١٩٩٤ قد إنتهت مع اعادة الانتشار الجزئي من الخليل عام ١٩٩٧. في الواقع لم تكن تلك عملية لاعادة الأرض للفلسطينيين مقابل السلام كما توهم المفاوض الفلسطيني ، بل كانت عملية حصر للسلطة في تقديم الخدمات المدنية والحياتية لجزء من الشعب الفلسطيني مقابل استمرار استحواذ إسرائيل على الأرض وإجراء عمليات اعادة انتشار فنية لجيشها خارج المدن الفلسطينية بما يضمن سيطرتها العليا على الجوانب الامنية بصورة أفضل وتوظيفها لأجهزة السلطة لخدمتها في هذا الجانب.
مع سقوط وهم معادلة " الأرض مقابل السلام " حلت معادلة أخرى مكانها ، تمثلت في تنفيذ عمليات إعادة انتشار أحادية من جانب اسرائيل ، في إطار تنظيم وإعادة تنظيم عمليات الاستيطان الاستعماري، والعملية الكبرى التي تمت في هذا الإطار هي الانسحاب من داخل قطاع غزة والانتشار خارجه عام ٢٠٠٥ وتفكيك المستوطنات الاستعمارية المقامة على أراضيه ، إضافة إلى تفكيك المستوطنات الاستعمارية في محافظة جنين حينذاك ولكن مع إبقاء الجيش الاسرائيلي فيها بخلاف قطاع غزة . ظن بعض المراقبين حينذاك أن إعادة الانتشار هذه هي نوع من الانكفاء الاسرائيلي عن مشروعها التوسعي المسمى ب " مشروع إسرائيل الكبرى" وإن حفزته دوافع اسرائيلية داخلية . ولكن رد ارييل شارون الذي نفذ تلك العملية قد كان لافتا حين قال في مؤتمر عقد في مدينة كرمئيل قرب حيفا حينذاك ما مفاده أن عملية إعادة الانتشار تلك قد دفعتها الرغبة في إعادة تنظيم الاستيطان الاستعماري ليركز على المناطق الأكثر أهمية لإسرائيل وهي النقب والجليل والقدس ( مواسي ، ٢٠١٤) . في الواقع لم يرد شارون الانكفاء عن الاستيطان الاستعماري كما رأت وجهة النظر أعلاه ، ولكنه أراد تركيزه على إسرائيل وغالبية أجزاء الضفة المحتلة عام ١٩٦٧، مع الاستغناء عن حكم قطاع غزة من الداخل، مقابل تحويلها إلى سجن محكم الإغلاق من الخارج. لاحقا اعتبر حكام اسرائيل التاليين استراتيجية شارون هذه تنازلا، وصاروا يؤكدون مرارا وتكرارا أنه لن تكون هنالك أية عمليات قادمة لتفكيك المستوطنات الاستعمارية، بل وانتقلوا إلى ما يطلق عليه اسم " مشروع الانتصار التام على الفلسطينيين " ، وتشكل لهذا المشروع ائتلاف داعم في كل من الكنيست الاسرائيلي والكونغرس الأمريكي عام ٢٠١٦ ( بايبس ، ٢٠١٦). وتلى ذلك قانون القومية الذي جعل " أرض اسرائيل " حقا حصريا "لشعب إسرائيل" عام ٢٠١٨، واكتمل تحول المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني من أطروحة " الأرض مقابل السلام " الخادعة إلى السرقة الكاملة لكل البلاد.
يمكن الاستخلاص بناءا على العرض السابق أن الاستراتيجية الاستيطانية الاستعمارية الصهيونية لم تنته عام ١٩٤٨ بقيام دولة طبيعية على أراضي فلسطين المحتلة في ذلك العام ، وأن الوضع الذي تم تصويره من قبل العالم وقيادة فلسطين بأنه احتلال عسكري مؤقت من قبل دولة طبيعية ستقوم بإنهاء احتلالها بعد اتفاق تفاوضي هو غير ذلك تماما حيث أنه وضع استيطاني استعماري بامتياز مر في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧ بثلاثة مراحل منذ ذلك الحين : المرحلة الاولى كانت مرحلة كانت من ١٩٦٧ وحتى اتفاق أوسلو وهي مرحلة كان قد تم فيها استكمال ضم ٤٢ بالمئة من الضفة الغربية إلى إسرائيل وفق الامرين العسكريين ٧٨٣ لعام ١٩٧٩، و ٨٩٢، وذلك عدا ما سمي بمناطق نفوذ المستوطنات الاستعمارية التي لا تشملها هذه النسبة ( هاندل ٢٠١٢) وفي ذات المرحلة شاغلت اسرائيل العالم بطرحها الاستعداد لانجاز "حل وسط اقليمي" كما سمته مع الاردن تضم من خلاله اجزاء من الضفة وتحول الباقي للاردن ، واستمر هذا الطرح حتى تولي الليكود للحكم في اسرائيل عام ١٩٧٧ ليتحول الطرح من " الحل الوسط الاقليمي" إلى " التسوية الوظيفية " مع الاردن والتي عنت الاستعداد الاسرائيلي لتحويل الوظائف الخدمية في الضفة للأردن مع احتفاظ اسرائيل بالارض كاملة . . في المرحلة الثانية سعت تفاوضت اسرائيل حول ذات الحل الوسط الاقليمي مع م ت ف بدل الأردن وهو ما تمخض عنه اتفاق أوسلو عام ١٩٩٣، وفي هذا السياق حصل متغيران عن فترة المحاولات السابقة مع الاردن : الاول: هو أن إسرائيل قد دخلت مفاوضات أوسلو مع م ت ف بعد أن كانت قد استكملت ضم ٤٢ من الضفة عدا مناطق نفوذ المستعمرات كما اشير اليه اعلاه ، هذا طبعا اضافة لضم القدس الشرقية الذي تم منذ عام ١٩٦٧. والثاني هو أن إسرائيل قد خلقت خلال المفاوضات مع الجانب الفلسطيني كل العقبات اللازمة لجعل الحل الوسط الإقليمي مستحيلا ، حيث أجلته إلى مفاوضات المرحلة النهائية واستبدلته بترتيبات مؤقتة ضمن عمليات إعادة انتشار للجيش وحكم ذاتي ، ثم تعنتت بعد ذلك بشأن كل المسائل المتعلقة بما يسمى بالحل النهائي ، مما اقفل الأبواب أمام التوصل إلى هذا الحل . بعد ذلك انتقلت اسرائيل إلى المرحلة الثالثة وهي مرحلة رفض تنفيذ أية تنازلات اقليمية لصالح توسيع مناطق الحكم الذاتي وذلك بدءا من رفض تنفيذ ما جاء في اتفاق واي ريفر لسنة ١٩٩٨، وتلى هذا الرفض الإفصاح الكامل حينما نضجت الظروف بتطويع الجانب الفلسطيني وكسر مقاومته عن اجندة اسرائيل المخفية باعتبار كل " أرض إسرائيل " حقا حصريا ل " شعب اسرائيل " كما جاء في قانون القومية عام ٢٠١٨.
الاستيطان الاستعماري و الابارتهايد : الجوهر والمظهر
يشير العرض الوارد حتى الآن أن ما جرى ومازال يجري هو زحف استملاكي لفلسطين ، ليس كأرض فقط ولكن كإستئصال لشعبها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وقانونيا ايضا . الصهيونية ليست إذن مشروع تفوق عرقي لعرق على آخر ، بل هي مشروع لوراثة شعب وبلاد بكيان استيطاني استعماري ، وإصدار شهادة ميلاد جديدة للبلاد بأسرها من النهر إلى البحر. " فالكولونيالية والتمييز حسب العرق ليسا نفس الشيء" كما أكد محمود ممداني في كتاب جديد ( ممداني ، ٢٠٢٠). الكولونيالية الاستيطانية هي استئصال فيزيائي خارجي وداخلي، واستئصال للمجتمع السياسي والاقتصادي والمجتمعي والثقافي وللكيان القانوني الشعب الأصلي وهويته ، وفي المقابل هو احلال لمجموعة أخرى تمتلك البلاد امتلاكا حصريا كاملا ، وهي ليست بالتالي رفعا لعرق فوق آخر داخل نفس المجتمع .
يشير العرض أيضا أن أوسلو لم تكسر التوسع الاستيطاني الاستعماري لتحوله إلى مشروع فصل وابارتهايد زاحف كما طرح غوردون ويفتاحيل ( يفتاحيل ٢٠١٢، وغوردون ٢٠١٢). على العكس من ذلك كان الضم الاستيطاني الاستعماري قد اتخذت قراراته وطبقت على الأرض منذ ثمانينيات القرن الماضي كما اتضح أعلاه ، وجاء أوسلو ٢ ليضع المنطقة ج من الضفة المكونة لثلثي مساحتها تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة بشكل مؤقت كان سينتهي عام ١٩٩٧ حسب الاتفاقيات ، ولكن كل الاتفاقيات الفلسطينية الاسرائيلية تعلم أن المؤقت يتحول دوما إلى دائم ، وهذا ما كان في المنطقة ج ، وفي الخليل ٢( H2).
لا يعني ما تقدم عدم وجود مظاهر ابارتهايد من تراتبية عرقية تتضمن حقوقا أعلى وحقوقا أقل ترافقها ممارسات متعلقة في كافة المجالات ضد الباقين من الشعب الأصلي في بلادهم . ولكن هذه المظاهر تنضوي في إطار عملية الاستيطان الاستعماري الأعم . كما أنها تمارس ضد الباقين في وطنهم بشكل مؤقت إلى حين ترحيلهم الى أماكن أخرى داخل الوطن أو خارجه . تتم ممارسة الابارتهايد ضد الباقين في وطنهم من الفلسطينيين، ولكن ذلك لا يحول دون الطرد من حمصة وهدم العراقيب وطرد بدو النقب ، واقتلاع قرى مسافر يطا ، وبطن الهوى والشيخ جراح في القدس ، وغيرها وغيرها . وطرح نتنياهو اثناء زيارة لأوكرانيا في آب ٢٠١٩ اقتراحه بتوفير دولة يتم تهجير فلسطينيي غزة إليها . نعم غادرت إسرائيل غزة وحاصرتها من الخارج ، وصادرت ٩٧ بالمئة من لواء غزة عام ١٩٤٨، ولكن ذلك كله لا يعني أنها تقبل بقاء مليوني غزي غالبيتهم من لاجئي ١٩٤٨على حدودها، فهم بالنسبة لها موضوع مؤجل الافصاح الكامل عما سيتم بشأنه إلى حين تنضج الظروف الملائمة لذلك .
مبتدأ الاستيطان الاستعماري في فلسطين هو نكبتا ١٩٤٨ و١٩٦٧، ومسؤولية إسرائيل عنهما وعن كل الترحيل الداخلي والخارجي الذي سبقهما ولحقهما وكل عمليات الإحلال الاستيطانية الاستعمارية التي أعقبت الترحيل ، ويلي ذلك مسؤوليتها عن معالجة كل ما ترتب على ذلك من تطبيق لحق العودة والتعويض وإزالة المستعمرات وإعادة الاراضي إلى اصحابها الاصليين . يختلف هذا الخطاب عن خطاب الابارتهايد الذي يقبل حقائق ما بني على الأرض في كل البلاد من مستعمرات ، ويقبل بشكل مجاني مسبق شرعية الكيان الذي قام على حساب الشعب الأصلي ، ثم يطالب كما في حالتنا بفكرة اصلاح النظام القائم عبر العمل لإزالة التمايز بين اثنيتين أحدهما أعلى مقاما وحقوقا من الأخرى .
يجب عدم الخلط بين هذا التمييز الأكاديمي - المعرفي ولكن ذو الأبعاد العملية ايضا الوارد أعلاه وبين سعي منظمة حقوق انسان مثل بيتسيليم أن تكافح حسب تقريرها الأخير ( إنه ابارتهايد: نظام تفوق يهودي من النهر إلى البحر) بالوسائل الحقوقية من أجل ازالة التمييز عن الباقين على أرضهم والمطالبة بحق هجرة متساو، وتساو في بناء البلدات وفي الحقوق السياسية وحرية التنقل وحق السكن وغير ذلك مما ورد في تقريرها . هذه الطروحات مهمة جزئيا ، وقوتها تكمن بأنها قد تمثل وسائل اضافية لاستعمال الحيز القانوني المتاح دوليا من أجل منع ترحيل الباقين في أرضهم ومن أجل تحسين حقوقهم من خلال مسارات إصلاح القانون والكفاح القانوني ضد الأبارتهايد . ولكن من جهة أخرى فإن إنهاء حالة الاستيطان الاستعماري في فلسطين يتطلب وسائل مقاومة اضافية تشمل المقاومة السياسية والدبلوماسية ، والكفاحية الشعبية الميدانية ، والاقتصادية والتنموية ، والمعرفية ، والإعلامية إضافة لوسائل الكفاح القانوني، وبتضافر جهود الشعب الفلسطيني كله داخل الوطن وخارجه وبالتكامل مع جهود حركات التضامن والمقاطعة وسحب الاستثمارات في العالم بأسره . وهذا ما لن تستطيعه بيتسيليم وليس مطلوبا منها ايضا . إضافة لذلك لا يكفي لمنظمات حقوق الانسان كبيتسيليم وغيرها حصر الكفاح القانوني بالكفاح ضد الابارتهايد وفق وثيقة الامم المتحدة للقضاء على كافة اشكال التمييز العنصري ( الابارتهايد ) لعام ١٩٦٣، بل هنالك الكفاح القانوني الممكن ايضا ضد الاستيطان الاستعماري استنادا لإعلان الأمم المتحدة حول منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة لعام ١٩٦٠ ووثائق اممية أخرى ، وهنالك ايضا سابقة بدء محكمة الجنايات الدولية التحقيق في جرائم الحرب الاسرائيلية ومنها جريمة الاستيطان وهي سابقة يجب البناء عليها .
خاتمة
ليس النقاش بين لمن له الاولوية على الارض : الاستيطان الاستعماري أم الابارتهايد ترفا ، بل هو نقاش له تبعات سياسية عملية . من هذه الزاوية يطالب دعاة نشوء الابارتهايد سيما الإسرائيليون منهم ( كما ورد في تقرير بيتسيلم )، ب " حق هجرة متساوية " وهو مطلب ينطوي على معضلتين : الأولى : اعتبار حق العودة للاجئين الفلسطينيين الى البلاد بأنه حق مساو لحق عودة اليهود إليها، وما يترتب عن ذلك من إنكار للنكبة التي ترتب عنها لجوئهم ، وإنكار لحقوق اللاجئين في التعويض عن النكبة وفترة اللجوء وعن أملاكهم السابقة، كما يترتب عنه مماثلة بين هجرة اليهود غير الشرعية ( بمن فيهم الساعون للسكن في مبان أقيمت او ستقام على حساب الفلسطينيين قبل عام ١٩٤٨ أو في بقية فلسطين المحتلة عام ١٩٦٧) وبين العودة الشرعية للاجئين الفلسطينيين إلى بلادهم. والثانية : الاعتراف مجانا بشرعية الهجرة الاستيطانية الاستعمارية على أرض فلسطين والنتائج المترتبة عنها سواء قبل ١٩٤٨ أو بعد ١٩٦٧، وقبل أن تقدم الصهيونية أي اعتراف واضح بالشعب الفلسطيني وحقوقه . وفي هذا الإطار يصبح المطلب الفلسطيني بتفكيك المستوطنات الاستعمارية مطلبا غير ذي صلة ويحل محله مطالب مثل " حق السكن المشترك في نفس الاحياء "، و" تساو في حق بناء البلدات " كما ورد في تقرير بيتسيلم . عوضا عن ذلك يتعامل خطاب الابارتهايد بطبعته الاسرائيلية مع الصهيونية وفكرها وممارساتها كحقيقة واقعة يمكن الكفاح من داخل نظامها نفسه من أجل تغييرها بدون كفاح شعبي من خارج هذا النظام . وهذه معضلة كبرى.
في الصدى الأوروبي للطبعة الإسرائيلية للأبارتهايد يجد المرء خطابا يساريا تشاركه بعض الحكومات مفاده : الاستيطان الاستعماري تجذر في أراضي فلسطين المحتلة بعد عام ١٩٦٧، وخلق واقعا تعتبر إزالته مستحيلة، لذا عليكم كفلسطينيين القبول به والانتقال الآن إلى خطاب الحقوق المتساوية في كل البلاد . ويجد الأوروبيون في هذه الأقوال راحة ضميرية ومدعاة للتنصل من دعم الكفاح الوطني الفلسطيني من أجل تفكيك المشروع الاستيطاني الاستعماري وعودة اللاجئين.
في المقابل فإن خطاب الاستيطان الاستعماري المتضمن لمظاهر ابارتهايد هو الخطاب القادر على تنظيم الكفاح ضد كل أشكال الاستئصال والاقتلاع ومن أجل عودة اللاجئين والتعويض عن خسارتهم ومعاناتهم.
الواقع على الأرض اليوم هو واقع مفتوح على امكانية نكبة جديدة للشعب الفلسطيني كما تشير لذلك برامج الأحزاب المشاركة في الائتلافات الحكومية الاسرائيلية في السنوات الاخيرة والتي حللتها في مقال آخر نشر في موقع عرب ٤٨ سابقا ( سالم : الطرد أم الابارتهايد ؟، ٢٠٢٠). ولكن التخطيط الصهيوني ليس قدرا فأمامه عوائق شتى أولها أن الشعب الفلسطيني لم ينهزم ، بعد ذلك تأتي كل العوامل الكابحة من الدول العربية المحيطة بفلسطين ومن قوى التضامن العالمية، وهذه ربما تستطيع بكفاحها واذا ما أحسن الفلسطينيون أيضا صنعا بكفاحهم الموحد ، تغيير مسار الطرد ليتحول إلى مسار ابارتهايد كما جرى في جنوب افريقيا التي عاشت حالة استيطانية استعمارية من ١٦٥٢ وحتى ١٩٤٨( أي حوالي ٣٠٠ سنة) انتقلت بعدها إلى حالة ابارتهايد لم تلغ الاستيطان الاستعماري كما هو شائع ، فقد استمرت الأقلية الاستعمارية البيضاء بالسيطرة على ٨٧ بالمئة من أراضي البلاد بعد ١٩٤٨ فيما كان للأغلبية السوداء ١٣ بالمئة فقط .
إن مغزى التحول من الاستيطان الاستعماري إلى الابارتهايد سيكون بوقف الطرد والترحيل واستبداله بنشوء حالة استغلال تشبه مستعمرات المزارع المختلطة سابقة الذكر، مما سيتيح المجال أمام تحويل الكفاح إلى كفاح حقوقي من أجل المساواة ، ولكن أيضا وبالتعلم من تجربة جنوب أفريقيا وبالإضافة عليها في الوقت ذاته من أجل إنهاء الفكر الصهيوني الاستعلائي وتفكيك مستعمراته وعودة اللاجئين واستعادة الأرض.
حتى يتم هذا التحول ، يمكن تشديد الجهود في مواجهة الاستيطان الاستعماري ، وفي نفس الوقت يمكن لمنظمات حقوق الانسان ان تعمل على مواجهة مظاهر الابارتهايد القائمة في إطار الاستيطان الاستعماري ، ولكن مع معرفة أن هذا العمل محدود بمعالجة المظاهر التي ليست هي الحالة السائدة ، وكذلك مع معرفة أن العمل على هذه المظاهر وحدها ليس كافيا لتغيير نظام السيطرة القائم على كل أرض فلسطين.