مثلما لا ينبغي التقليل من قيمة القرار الاممي الاولي بإحالة الملف الفلسطيني الى محكمة الجنايات الدولية، ينبغي بالمقابل عدم المبالغة في تقديمه للجمهور الفلسطيني، على انه مجرد انجاز خارق، ذلك ان الأمم المتحدة وخصوصا جمعيتها العامة واللجان المنبثقة عنها، تجسد أوسع تأييد دولي لقضيتنا وحقوقنا، ولولا حق النقض "الفيتو" الذي تتمتع به الولايات المتحدة ولا تتردد في استخدامه اذا ما كان في مصلحة الفلسطينيين، لكان منطقيا القول ان الأمم المتحدة هي الحاضنة الدائمة لفلسطين، وهي الاطار المضمون في التصويت لصالحها كلما طلب الفلسطينيون واشقاؤهم واصدقاؤهم ذلك.
الميزة الأساسية لقرار إحالة الملف الى محكمة الجنايات الدولية، بأنه واذا ما تحقق الغرض منه فسوف يلحق ضررا بالغا بالرواية الإسرائيلية، التي تنفي صفة الاحتلال المباشر وطويل الأمد والذي يوازي الضم الفعلي للأراضي الفلسطينية، وبالمقابل يوفر شرعية إضافية للكفاح الوطني الفلسطيني من اجل الحرية والاستقلال.
والامر على هذا الصعيد لا يقاس بمدى تطبيق ما ستوصي به محكمة الجنايات ولا ما قررته الجمعية العامة لعدة مرات لمصلحة الحقوق الوطنية الفلسطينية غير القابلة للتصرف، بل يقاس بمدى ما يبقي قضية الشعب الفلسطيني على قيد التداول، في حرب بقاء تضع فيها إسرائيل كل قواها لالغاء الرواية الفلسطينية الحقيقية وتثبيت الرواية الإسرائيلية، بأن الأرض الفلسطينية ليست محتلة بل متنازع عليها، والمواطنين الفلسطينيين مجرد سكان امر واقع بلا حقوق وطنية وسياسية.
ولعل هذا ما يفسر الجنون الإسرائيلي في مواجهة هذا التطور والذي عبر عنه بأوضح صوره مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة، اضافة الى التصويت الأمريكي والعديد من الدول الغربية ضده.
القرار الذي استشعر الإسرائيليون منه خطرا على روايتهم يعني عمليا دخولنا في معركة كبرى لتثبيته والبناء عليه امام سعي إسرائيلي لتفريغه من محتواه ومدلولاته، وجعله مجرد رقم متسلسل من ارقام القرارات التي اتخذت واودعت الأرشيف.
المعركة التي بدأت فعلا منذ صدور قرار اللجنة سوف تتخذ طابع المعارك السابقة والمماثلة، كالضغط على الرئيس محمود عباس للتراجع عنه او ابطاء حركته، مع الضغط على الدول الداعمة حد الابتزاز والتهديد، ومن سيتولى الضغط الفظ المباشر اسرائيل، اما الضغط الناعم واللبق فسيأتي من أمريكا ومعها العديد من الدول الغربية، بحجة ان "تصعيدا" فلسطينيا على هذا المستوى سيغلق الأبواب امام أي احتمال لاستئناف مسيرة السلام!، وسيؤدي الى استفزاز إسرائيل التي سترد عليه بمزيد من الخطوات القمعية والاستيطانية والانتقامية.
وسوف يستخدمون حجة تكتيكية طالما استخدموها في أمور مماثلة، كالقول ان الإجراءات التي ستتخذ لهذه الغاية ستستغرق وقتا طويلا، وانها ما دامت مرفوضة من جانب أمريكا ومن معها من الدول الغربية فلن يكون لها أي قدر من الفاعلية، واذا ما اضفنا الى ذلك الحقيقة التي تكرست تاريخيا بأن إسرائيل تجسد استثناء من القوانين والقرارات الدولية. فهي صاحبة "اللا" الازلية ضد أي قرار في مصلحة الفلسطينيين.
منذ بدء التحرك الفلسطيني في الأمم المتحدة ونحو محكمة الجنايات الدولية فكل ما تقدم إسرائيليا وامريكيا كان متوقعا ومجربا بالفعل، وهنا ينبغي عدم تعليق كل شيء على الشماعة الامريكية والإسرائيلية، بل ينبغي تحصين الموقف الفلسطيني من هذه المعركة الصعبة، والتي من الحتمي خوضها ليس بمجرد جمع الأصوات التي تؤيدنا والتباهي بها -وهي بالمناسبة آخذة بالتناقص- بل بتمتين العضلة الفلسطينية الداخلية وتفعيل التحالفات الفلسطينية العربية والإقليمية والدولية، والانطلاق بجهد منسق لمغادرة حظيرة التصويت فقط الى موقع اكثر فاعلية نحو توجه إقليمي ودولي جدي، يطرح حل القضية الفلسطينية من جذورها، على أساس القرارات الدولية، التي اعتبرت الحقوق الوطنية الفلسطينية ثابتة وغير قابلة للتصرف.
الملفت للنظر ان الوضع الراهن فيه قدر من اللامنطق، بحيث يبدو الدعم والتبني الدولي للحقوق الفلسطينية معقولا في زمن القضايا المنافسة وما اكثرها، كذلك يبدو الدعم العربي والإقليمي ولو على صعيد التصويت والتبني السياسي. اما اللامنطق فهو في الحلقة الاخيرة من السلسلة اي الحلقة الفلسطينية فهي الأضعف من بين سائر الحلقات، وكلمة السر في الضعف الانقسام والجمود وانعدام عمل المؤسسات ما يجسد تهريبا للانجازات مهما عظم شأنها.
أسئلة تدور في الاذهان ونحن في اول المعركة هل ستخضع السلطة الفلسطينية للضغط الأمريكي والإسرائيلي وحتى الأوروبي كما حدث في مرات سابقة؟
وهل ستحتفل بقرار لتنساه في اليوم التالي؟
وهل سنصلح حالنا لنكون أكثر قدرة على استخدام هدايا الأصدقاء لنا؟
الإجابة ستكون وافية في قادم الأيام ومن يعش يرى.