بكلّ المقاييس فإن الانسحاب الروسي من «خيرسون»، هذه المدينة الأوكرانية المهمة والاستراتيجية، أو إخلاءها هو خسارة كبيرة لهذه القوات، وهي من الناحية المعنوية على الأقلّ خسارة مضاعفة.
يعرف كل «متتبّع» غربي ــ إذا كان لديه ذاكرة أفضل قليلاً من ذاكرة السمكة ــ أن القوات الروسية كانت تعمل على مدار أكثر من ثلاثة شهور على إخلاء عشرات الآلاف من سكان المدينة.
كان كل ذلك يجري يومياً، وعلى مدار الساعة، وأمام الجميع، وكان معلناً على رؤوس كل الأشهاد.
وفي تفسير هذا الإخلاء الجماعي كانت تسود في أوساط المحلّلين العسكريين على جانبي معادلة الصراع والمعارك بعض الآراء التي تبدو متناقضة أو متضاربة على الأقل.
بعض هذه الآراء، رأى أن القوات الروسية ــ التي كانت تعرف حجم الحشود الأوكرانية المقابلة والمتاخمة للمدنية ــ تخشى على آلاف الضحايا في صفوف المدنيين في حال أقدمت القوات الأوكرانية على محاولة اقتحام المدينة، ولهذا كانت القوات الروسية تسارع الخطى لإجلائهم بأسرع وقتٍ ممكن.
وهذا في الحقيقة ما حصل، وقد تم بالفعل إجلاء، إخلاء، نزوح عشرات الآلاف، وتم تأمين وصولهم إلى مناطق آمنة داخل الأراضي الروسية إلى خلف خطوط القتال.
أما البعض الآخر من تلك الآراء فكان يرى أن إجلاء السكان سيمكّن القوات الروسية من «الدفاع» عن المدينة، وسيكون صعباً على القوات الأوكرانية دخولها، وان الثمن الذي ستدفعه هذه القوات سيكون باهظاً للغاية دون نتيجة مؤكّدة.
أي أن الآراء كانت ترى أن القوات الروسية تحضّر نفسها لخوض معركة خيرسون بأقل الضحايا في صفوف المدنيين، وبأعلى الخسائر في صفوف القوات الأوكرانية.
وبين ليلةٍ وضحاها ــ بكل ما لهذه الكلمة من معنى ــ ودون معرفة ومراقبة ومتابعة القوات الأوكرانية، ومن دون أي ردود أفعالٍ عسكرية تذكر، تم سحب أكثر من ثلاثين ألف جنديٍ روسي، وأكثر من ستة أو سبعة آلاف معدّة عسكرية، إلى درجة أن القوات الأوكرانية لم تتقدم إلى المدينة إلّا بعد مرور أكثر من ثمان وأربعين ساعة من اكتمال الانسحاب الروسي الكامل، وعند دخول «طلائع» القوات الأوكرانية إلى أطراف المدينة كانت الأوساط السياسية والإعلامية الغربية والأوكرانية تتحدث عن «خديعة»، وعن «تلغيم» كل المدينة، وكانت تتحدث عن «مصائد» للقوات الأوكرانية.
لم يتقدم حتى تاريخه محلل أو خبير عسكري واحد، غربي أو «بريطاني»، خصوصاً أن الاستخبارات العسكرية البريطانية كانت هي «الناطق» الإعلامي عن سير المعارك في أوكرانيا طوال الشهور الماضية.. لم يتقدم ولا مجرّد واحد من هؤلاء ليخبرنا ما الذي جرى؟ ومتى تم الانسحاب الروسي؟ ولماذا تم هذا الانسحاب، طالما أن أحداً لم يخبرنا أصلاً عن وقوع معركة، وطالما أن الجانب الأوكراني نفسه لم يخبرنا عن هذه «المعركة» التي لم تقع مطلقاً؟!
وأين كانت الأقمار الصناعية الغربية، الأميركية المختصة بتزويد أوكرانيا بكل تفاصيل «الإحداثيات» التي تتعلق بكل تحرك للقوات الروسية؟
أيُعقل أن سحب أكثر من ثلاثين ألف جنديٍّ، وسبعة آلاف معدّة عسكرية بما فيها قطع للمدفعية الثقيلة والدبابات الكبيرة والمدرّعات، وغيرها.. وغيرها، قد «تمّ» من دون معرفة ومتابعة الغرب مع كل الإمكانيات الهائلة لـ»حلف الأطلسي» على الصعيد الاستخباري، وكل الرادارات وأجهزة المراقبة وعشرات الأقمار الصناعية التي يقول الغرب نفسه، إنها متخصصة ومكرّسة لهذه الحرب؟
نحن هنا ربما نكون أمام احتمالين لا ثالث لهما، ولا يمكن أن يكون الأمر سوى ذلك بالتأكيد:
فإمّا أن روسيا قد عطّلت كل الوسائل والتقنيات والأقمار طوال الفترة التي استغرقها الانسحاب.
وإمّا أن هذا الانسحاب قد «تمّ» في إطار «صفقة»، عقدت بالفعل بين الغرب من جهة وبين روسيا من جهةٍ أخرى، كمقدمة لصفقة أكبر، وأكبر بكثير من حدود ودلالات معركة خيرسون، وتتعلق بالمفاوضات القادمة لإنهاء الحرب.
الاحتمال الأول ليس مرجّحاً، بل وضعيف، أيضاً، لأن كل محاولات التستّر عليه ستفشل، وسيتم تسريبه إلى العلن، إن لم يكن اليوم ففي الغد القريب.
وهو إذا ما كان قد حصل فعلاً يمثل نكسة ما بعدها نكسة لكل الغرب، وسيكون من المؤشّرات بعيدة الخطورة والأثر على حقيقة التوازن العسكري بين روسيا من جهة، وبين كل الغرب وكل حلف شمال الأطلسي.
وما يبعث على عدم أرجحية احتمال كهذا هو عدم وجود أي إعلانات أو إشارات، لا غربية ولا أوكرانية عن استخدام روسيا لأي موجات كهرومغناطيسية لشلّ الاتصالات في محيط المدينة، أو أي «تعمية» من أي نوعٍ كان.
أو لنقل ــ على الأقل ــ لم يتم الإعلان أو الإشارة إلى شيء من هذا القبيل.
هذا يقودنا إلى الاحتمال الثاني، وهو احتمال الصفقة.
هنا يمكن أن تكون الصفقة قد حصلت على مستويين اثنين:
• المستوى الأوّل، هو أن القوات الروسية (والمخابرات الروسية) أبلغت الولايات المتحدة بأنها ستنسحب من المدينة، وأنها ــ أي القوات الروسية ــ ليست معنية بالبقاء فيها، لأن المدينة ليست، ولا يمكن أن تكون أو تشكل خطوطاً دفاعية، وخصوصاً بعد خروج غالبية السكان ونزوحهم باتجاه المناطق الآمنة، وبالتالي فإنها ستنسحب من المدينة، وهي تحذّر الغرب وأوكرانيا بأن أي تعرض لهذه القوات أثناء الانسحاب سيُجبر القوات الروسية في هذه الحالة على استخدام أسلحة «غير تقليدية» من شأنها نقل الحرب في أوكرانيا إلى مراحل خطرة جداً وجديدة.
وإذا ما صحّ مثل هذا المستوى الأوّل للصفقة فإن الولايات المتحدة على الأرجح قد «تفهّمت» هذا الأمر.
أما المستوى الثاني من الصفقة، فيتعلق بوقف الحرب، والدخول المرتقب في مفاوضاتٍ سياسية لإنهائها.
المؤشّرات على هذا الاحتمال كثيرة ومتعددّة ومتشعّبة، أيضاً.
لم يعد أحد في الغرب كله يتحدث عن «ضرورة» استمرار هذه الحرب، ولم يعد أحد في كل الغرب إلّا وبات ينادي ويناشد بالذهاب السريع إلى طاولة المفاوضات، ولم يعد فلاديمير زيلينسكي نفسه «يرفض» المفاوضات كما كان يرفضها قبل عدة أسابيع فقط، ولم يعد أحد في الغرب إلّا وانتقد بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة مبالغات زيلينسكي و»شروطه» وتبجّحاته، واختفت من القاموس السياسي والإعلامي الغربي: «تركيع» روسيا، و»هزيمة» روسيا، و»تحرير» الأراضي الأوكرانية، بل وأصبح البعض في هذا الغرب «يثني» على عودة روسيا إلى «اتفاقية الحبوب»، بالرغم من شروط روسيا الجديدة للعودة إليها، وبدأت أوروبا بتقليص الدعم العسكري، وبدأ غضب زيلينسكي يظهر إلى العلن، وبات متاحاً فتح بعض الشركات الأميركية على روسيا، وبدأ الحوار مع روسيا حول نظام «السويفت»، وفشلت خطة تحديد أسعار النفط الروسي، وسمحت الدنمارك للخبراء بفحص التخريب الذي تعرضت له خطوط الغاز الروسي، وبدأت تظهر إلى العلن خلافات ألمانيا وفرنسا مع الولايات المتحدة، حول قضايا تجارية كبيرة، وحول أسعار الغاز الأميركي، والأهمّ باتت أوروبا على أبواب أزمةٍ اجتماعية كبيرة في ضوء دخول كل «منطقة اليورو» إلى الركود، وبعد المؤشرات الاقتصادية الخطرة التي سجّلها الاقتصاد الأميركي، والمؤشّرات السلبية للأداء الاقتصادي ليس حتى نهاية العام، وإنما للعام أو العامين القادمين.
مهما كان الاحتمال الأوّل ضعيفاً، ومهما كان الاحتمال الثاني قوياً فإن «معركة» خيرسون التي لم تقع تكون قد «وقعت» فعلاً ولكن ليس على أرض المعركة، وإنما على طاولة التفاوض القريب.