"المونديال" واستعادة فلسطين!

تنزيل (2).jpg
حجم الخط

بقلم د بكر أبو بكر

 

 

 الحمد لله أن الأمة استطاعت أخيرًا أن تجد ما يجمعها. ونحمد الله كثيرًا أن الوعي القادم الينا عبر البهجة الرياضية قد استطاع أن يعيد الى الأضواء قضية جامعة كادت أن تكون باهتة أومنسية في ظل الركود السياسي الفلسطيني، وفي "اتفاقات ابراهام" الاستتباعية وفي ظل انصراف العالم ميممًا نحو الحرب الأطلسية-الروسية في أوكرانيا، وفي ظل نكوص عدد من ساسة الأمة وسقوطهم في مستنقع الجهالة والذيلية والاستهلاكية والنزق.

لم يكن مونديال قطر من زاوية النظرة العربية أو الإسلامية العامة الا مناسبة احتفالية استطاعت فيها شعوب الأمة الواحدة أن تبتهج واضعة فلسطين فوق رأسها، لتعبر عن فرحتها المشتركة. بمعنى أن الأمة وكأنها كانت تنتظر هذه الفرصة لتثبت أصالتها وجذرها الفلسطيني، وتتحدى ساستها الذين جعلوا من مصالح كراسيهم على رأس أولوياتهم فوق القضية الجامعة.

استضافة مباريات لعبة كرة القدم في أول بلد عربي تقام على أرضه البطولة العالمية لم تظهر كرياضة بحتة، بل غدت عنوانًا ثقافيًا وفنيًا وتراثيًا، وأيضًا سياسيًا حينما دخلت فلسطين لتكون الفريق 33 الفائز في كل المباريات، ولتثبت أنها مازالت في قلوب جميع المسلمين والمسيحيين والعرب قاطبة، بل وأحرار العالم.

انزعج الصحفيون الإسرائيليون الذين غطّوا مباريات كرة القدم في قطر من انصراف الجميع عنهم، ورفض التعامل معهم. لقد تم استعادة فلسطين في قطر. فكان الاكتشاف وكان الانصراف ما جعل من الكتاب المنصفين، وكبريات الصحف الإسرائيلية ينذرون ويحذّرون من أن السلام البارد (هو الاستتباع للمهيمن بالحقيقة) مع الدول العربية سيظل باردًا مادام مرتبطًا بالرأس ولم يصل للجماهير (ونقول لن يصل)، وسيظل بلا أي محتوى حقيقي مادام التتبيع يسير بالشكل المخالف لما طرحته المبادرة السعودية-العربية، وسيظل بلا أي حضور في قلب وعقل الأمة بشيوخها وحتى أطفالها مادامت القضية الفلسطينية لم تحل.

استنادًا للإعراض عن الصحفيين الإسرائيليين وإدارة الظهر لهم في الدوحة ذهب بعض المتطرفين الصهاينة الى وصف العرب بما لا يليق من أوصاف عنصرية تلمودية (للفكاهة فإن "نتنياهو" ذاته يعلن من أيام، وكأن العالم غبي! قائلًا: أن البلاد لن تحكم بالقوانين التلمودية؟؟! تصوروا)، كانوا لا يملّون من إطلاقها على الفلسطينيين، فصُعقوا من طريقة نظرة الأمة الحيّة لهم، وبدلًا من فهم أصل المشكلة أي فلسطين، قذفوهم بالازدراء والاتهام والشتيمة، وهذا ما يعبّرعن حقيقة الفكر الإلغائي الاحتلالي والعنصري لدى المتطرفين الصهاينة ومتدينيهم اليمينيين الصاعدين.

المناسبة الرياضية الثقافية العالمية في قطر فضحت الأوهام الإسرائيلية تلك التي حاولت تسويق نفسها للعرب عبر ابتسامات "نتنياهو" الدسمة! وعبر هرطقات الرئيس الأمريكي السابق صاحب الصفعات على خديه، وفضحت الأوهام كما أراد ونظّر "شمعون بيرز" في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، الذي رسم به ببراعة سياسي خبيث نظاماً إقليمياً بوجه قومي، وبخطط اقتصادية ضخمة وطمس تاريخي ساذج لكل تركيبة الأمة العربية، داعياً بذلك إلى شعار "من اقتصاد الحروب إلى اقتصاد السلام"! وب"إسرائيل" كعقل وتقانة تفيء بظلالها على المنطقة! فتحقق الهيمنة المطلوبة. وهو ما سارت عليه "اتفاقات ابراهام". لكنها التي ظلت بالرأس فقط حتى الآن.

الأمة لم تنخدع بالسلام الإسرائيلي-الإبراهامي الوهمي أو البارد الناهد نحو تحقيق الهيمنة الإسرائيلية المطلقة على المنطقة العربية، وليس الاندماج السلمي فيها كما يروّجون.
لم تنخدع الأمة بمحاولات اختراق قلبها وعقلها وهي ترى يوميًا الشهداء يتساقطون والأسرى يصرخون، والمناضلون يتصدون للهجمات الاستيطانية المسعورة، وترى الاحتلال يتغول في فلسطين بشمالها وجنوبها. والقدس والمسجد الأقصى يتم تدنيسه يوميًا كما كنيسة القيامة أمام مليارات المسلمين والمسيحيين ولا من مغيث غير السواعد السمراء الفتية.

ولم تنخدع الأمة بمظاهر "الديمقراطية" المزيفة، المغلفة ب"القومية اليهودية" التي لا تفهم الا بالصندوق لها دون الحقوق لكل الشعب وعلى رأسه العربي الفلسطيني صاحب الأرض.
العنصرية والأبارتهايدية الصهيونية، وعقلية الاحتلال والإلغاء بدلًا من أن تخفت لدى الإسرائيلي تتصاعد مع اليمين المتغطرس!

بدلًا من أن تفهم العقلية الإسرائيلية -واستناداً لرفض الأمة لها في احتفالية قطر على الأقل-أن هذا الشعب العظيم والجبار صاحب الأرض لايزال وسيظل حيًا، ها هي تتساوق كما عبّرت بالانتخابات مع أعداء الإنسانية والقيم والأخلاق، ومتخذي الإرهاب والفاشية قيمة أصيلة.
إن العقلية اليمينية الصاعدة بشراسة اليوم تتقاطع مع عقلية القوة الجابوتنسكية، والطرد المبرر للأغراب! باعتبار ذلك وسيلة وقيمة عليا ستبدو جلية حين يتسلم "بن غفير" مهمة "المندوب السامي" للضفة أو حاكمها الفعلي فنرى الأمور ومعنا كامل الأمة والعالم على أنصع بشاعتها!

الحمد لله كثيرًا أن وجد العرب ما يجمعهم غير المسلسلات العربية والأغاني العربية، بعد أن فقدوا الأمل بالمؤتمرات السياسية-رغم أن ما يجمعهم الكثير الذي لاينفد- حين استدلوا على القضية الفلسطينية عبر بهجة الرياضة، مستثمرين الحدث العالمي ما يوجب على الجماهير عامة وخاصة مثقفي ومفكري وإعلاميي ورياضيي وساسة الأمة رفع قيمة الفكر والتاريخ الجامع والقيم والثقافة تلك التي توحّد وتجمع وتربط، والتي لن تجد لها من صمغ أشد قوة من فلسطين التي وجب ان تظل هي القضية الأولى والجامعة والمانعة.