فوز المغرب أكبر من مجرّد حدث رياضي

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

 

هو حدث رياضي مذهل، لكن هذا الانتصار أكبر من ذلك بكثير.
هو في الواقع حدث يتجاوز الكثير من معطيات رياضة كرة القدم وفنونها وتكتيكاتها وفنّياتها لأن المغرب أثبتت من خلال فريقها الكروي أنها تمتلك ميزات خاصة من هذه المعطيات والفنّيات، وأن باعها بات طويلاً في عالم "الكرة الساحرة".
الانتصار المغربي كحدث رياضي أثبت أن تعادلها الأوّل، ثم انتصارها لمرّتين متتاليتين على فرق كبيرة وعريقة، وبصورة مستحقة ليس صدفةً، وأكبر دليل على ذلك أن الانتصار المغربي قد تمّ بذكاء شديد عندما يدافع ويحسّن الهجوم، وكلّما تتوفّر له الفرص.
المباراة الأخيرة مع الفريق الإسباني كانت الاختبار الأصعب لـ"أسود الأطلس" عندما اختاروا "استراتيجية الدفاع" والذهاب إلى الهجوم المباغت كلّما كان ذلك ممكناً دون مغامرة، ودون فتح الممرّات على مصراعيها، وهو ما يعكس اعتماد هذه الاستراتيجية حتى الصافرة الأخيرة.
أغلب الظنّ أن مدرب الفريق المغربي كان يدرك القدرات الهجومية للفريق الإسباني، وكان يسعى لإغلاق المنافذ، وعدم تمكين الفريق الإسباني من تسجيل أي أهداف حتى لا يُضطر إلى تغيير استراتيجية الدفاع، وحتى لا يصبح مجبراً على التقدّم الهجومي، بإعطاء المهاجمين الإسبان مساحات إضافية قد تمكّنهم من التسجيل مجدداً ما سيعرّض مصير المباراة للخطر الشديد.
وأغلب الظنّ، أيضاً، أن مدرب الفريق المغربي قد استطاع "جرّ" المباراة كلها إلى النهاية التي أرادها قبل ركلات الترجيح لأنه كان يدرك ويثق بقدرات حارس مرماه، وقد راهن في الواقع على هذه القدرات لحسم النتيجة.
نعم، هو حدث رياضي مذهل لأن الفريق امتلك حتى الآن القدرة على إظهار إمكانياته الفنية، وقدراته الذهنية على حُسن التقدير، وعلى التخطيط الذكي، والنجاح في المحافظة على تماسك الخطوط، وعلى تماسك الفريق نفسه على مدى زمني زاد على الساعتين من اللعب المتواصل والضغط الشديد دون أن يفقد لياقته البدنية، ودون أن يفقد ــ وهذا هو الأهمّ ــ ثقته بنفسه، أو ثقته بقدراته على الانتصار.
ليس صدفةً أبداً أن الفريق المغربي لم يتلقّ في شباكه أي أهداف سوى هدف واحد، وكان هذا الهدف بقدم لاعب مغربي، وبصورة عرضية وبمصادفة بحتة.
وليس صدفةً أنه استطاع بصورة مُقنعة هزيمة الفرق الكبيرة والعريقة، وأدار كل مبارياته بحنكةٍ واقتدار وتماسك أذهل الجميع.
هذا الانتصار دشّن دخول العرب إلى دور الثمانية في تاريخ كرة القدم كلّه، وأظهر أننا نستطيع، وفي هذا المعنى بالذات يكمن البعد الأوّل لما هو أبعد من الانتصار في هذه المباراة.
هذا الدخول سيكون له ما بعده لأنه كسر حاجزاً نفسياً ما زال العرب عموماً يعانون منه، وهو حاجز أننا لا نستطيع، أو ليس ممكناً، أو هي مجرّد تمنّيات، أو أحلام، أو غيرها من المفاهيم التي تحول دون ثقة العربي بنفسه، إذا أحسن العربي عمله وأتقنه، وإذا ما أعدّ له جيداً، وإذا ما أدرك عمق وأهمية التخطيط والبناء المؤسس على تراكم الخبرة، وعلى الاستثمار في الإنسان العربي، فإن العربي يستطيع، وهو قادر على صنع الانتصار.
وهذا الانتصار دشّن، أيضاً، فرض احترام المجتمع الرياضي الدولي كلّه للقدرات العربية في فرض نفسها على خارطة "الكرة الساحرة".
لم تعد الفرق العربية "زيادة عدد"، أو مجرد "حصة" تدريبية للفرق الكبيرة، وأصبح كل من كان ينظر إليها بهذه الصورة يغامر ليس فقط بخسارة المباريات وإنما بالإقصاء التام من المشهد الرياضي العالمي الذي جسّده هذا "المونديال".
قد يقول قائل، إن ذلك كلّه، حتى وإن كان صحيحاً فهو في النهاية لا يعكس سوى المجال الرياضي، وهو لا يصلح كمقياس لمقولة أننا نستطيع أو لا نستطيع!
الحقيقة أن العكس تماماً هو الصحيح، وذلك لأن كرة القدم شأنها في ذلك شأن كل المجالات الأخرى في عالم اليوم، ليست سوى أحد أنواع الصناعة، وهي صناعة تدرّ الأرباح بمئات الملايين، إن لم نقل بالمليارات، وهي باتت معروضةً للاستثمار في كبريات الشركات والصناديق، ولم تعد "رياضة" إلّا من حيث بعض المظاهر، ومن حيث ما تشكله من متعة لجماهير غفيرة في كل مكان من هذا العالم.
بهذا المعنى ليس سهلاً على الإطلاق أن تكون محسوباً في مصاف الكبار عالمياً، وأن يتحوّل فريق عربي ليصبح له هذه المهابة في التنافس العالمي في هذا المجال.
أقصد أن "التفوّق" في هذا المجال لا يأتي أبداً إلّا بالجهود والموارد والتخطيط وتراكم الخبرات.
ولذلك فإن انتصار المغرب يأتي في صُلب معركة أننا نستطيع. لا شكّ أن عامل الجمهور قد ساعد كثيراً الأشقاء المغاربة في هذه الانتصارات، ولا شكّ، أيضاً، أن المؤازرة الكاملة من الجمهور العربي في قطر من كافة البلدان العربية قد ساهمت في تعزيز ثقة الفريق المغربي بنفسه، وليس مستبعداً أبداً أن حماس الجمهور المغربي والعربي في الملعب، وبالطريقة التي شاهدناها جميعاً قد أثّر على معنويات الفرق التي لعبت مع الفريق المغربي، كما كان قد أثّر إيجاباً على الفرق العربية، وخصوصاً الفريق السعودي والفريق التونسي، إلّا أن مؤازرة الجمهور العربي، إضافةً إلى الجمهور المغربي لم تكن عادية، أو مجرّد حماسية.
الجمهور العربي لم يؤازر الفريق المغربي فقط، وإنما خاض مع الفريق معركة الانتصار التي تحقّقت.
الهتافات كانت من أعماق المُهَج والقلوب، وكانت دموع الخوف على الفريق تختلط بالدعاء والتضرُّع، وبأعلى أشكال التعلّق بالأمل.
قال المذيع الخليجي بعض الكلمات المؤثّرة وهو يصف الهتاف والمؤازرة: "والله حرام هذا الجمهور يروّح زعلان"!
كان هذا انعكاساً لحالة الجمهور غير المسبوقة، وغير المعتادة.. حالة مشاعرية لم نشهدها منذ عقود.. حالة من الشعور بالانتماء إلى أمّة واحدة، وحالة الإحساس بمصيرها حتى ولو من نافذة الرياضة، ومن نافذة لعبة كرة قدم.
هذا الجمهور الذي انتشى في الملاعب، وبلغت نشوته وابتهاجه حدّ جنون الفرح هو جمهور ينتمي إلى أوطانه، وينتمي إلى أمّته، ويتوق للتعبير عن هذا الانتماء.
أمّا فلسطين فهي عنوان كلّ نصر وكلّ انتصار.
وماذا كانت تتمنّى فلسطين من الفريق المغربي، والجمهور المغربي والجمهور العربي أكثر من رفع فلسطين إلى سماء العزّة والكرامة وهذا الالتحام المغربي بها وهذا العشق العربي لأهلها، وهذا الوقوف الالتحامي معها.
شكراً للمغاربة من القلب، وشكراً لملايين العرب الذين وقفوا إلى جانب المغرب لأن مؤازرة المغرب كانت مؤازرة لفلسطين، ومؤازرة فلسطين ثبتت أنها كانت مؤازرة للمغرب، وفي هذا تكمن أكبر وأهمّ معاني هذا الانتصار المغربي.
أبهرتنا قطر بأنها استطاعت وتفوّقت في تنظيم "المونديال"، وأبهرتنا المغرب بأنها استطاعت وتفوّقت في الملعب، وأذهلنا الجمهور العربي والمغربي بهذا الحبّ وهذا الوفاء لأمتّه وأوطانه ولأمّ البدايات وأمّ النهايات، التي كانت تسمّى فلسطين، وصارت تسمّى فلسطين.