مرة ثانية وثالثة ورابعة يعود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتذكير بشأن تصاعد خطر الحرب النووية، في إشارة صريحة للأوروبيين والأميركيين الذين ينشرون ويخزنون رؤوساً نووية في عواصم أوروبية قريبة من موسكو.
بوتين الذي تشن قواته حرباً طويلة على أوكرانيا لإخضاعها للمتطلبات الأمنية الروسية، يلوح بالسلاح النووي كعامل ردع في وجه الأوروبيين والأميركيين الذين يدفعون بالأسلحة المتطورة والدعم السخي لإبقاء كييف صامدة في وجه الآلة العسكرية الروسية.
حرب روسيا على أوكرانيا أخذت بعداً مختلفاً حينما شنت القوات الروسية مؤخراً غارات مكثفة على البنى التحتية الأوكرانية وخصّت قطاع الطاقة، وتزامنت الغارات مع تصريحات للرئيس الروسي قال فيها إن كييف هي أول من ضرب البنية التحتية الروسية باستهداف جسر القرم.
في الواقع تحاول موسكو الضغط على كييف لإرغامها على التفاوض والقبول بشروط الأولى لوقف الحرب، بينما تتسلح أوكرانيا بالدعمين الأميركي والأوروبي لمواصلة القتال، إلى درجة أن بعض دول الاتحاد الأوروبي بدأت تشتكي افتقارها الموارد العسكرية والمادية لدعم كييف.
مشكلة أوروبا الغربية أنها خاضعة للضغط الأميركي الذي وضعها في مخاوف بشأن مستقبل اقتصاداتها، خصوصاً وأنه مطلوب منها تدبير احتياجاتها من الطاقة والمشتقات البترولية بعيداً عن روسيا، وكذا مواصلة فتح «صنبور» المال لتمكين أوكرانيا من الصمود في الحرب الحالية.
هذه الحرب بالنسبة لروسيا مسألة حياة أو موت، ويسعى بوتين بكل قوة من أجل تحقيق ولو انتصار متواضع على الغرب، لذلك حين يلوّح بالسلاح النووي ومخاطر استخدامه، فهذا يعني أن الحرب التي تشنها بلاده لا تحتمل الخسارة.
تدرك موسكو أن واشنطن منحازة لفكرة الحرب الاستنزافية طويلة المدى، لأن ذلك سيضعف القوات الروسية شيئاً فشيئاً، وسيؤدي مع الوقت إلى تنامي الأصوات التي تطالب بوقف القتال، ولذلك يفهم من تلميحات الرئيس الروسي بشأن خدمة 150 ألف جندي في أوكرانيا ضمن 300 ألف تم استدعاؤهم للتعبئة الجزئية على أن موسكو لم تضع كل ثقلها في هذه الحرب.
في اجتماعه مع مجلس حقوق الإنسان الروسي في الكرملين، ذكر بوتين أنه لا معنى لأي تعبئة إضافية في الوقت الحالي، وهذا مرده إلى أن الرئيس يريد أن يُصوّر للداخل الروسي سيطرة قواته على القتال في أوكرانيا ولا داعي للاستنفار والقلق.
بوتين يحاول قدر المستطاع تجنب أي خسارة لقواته حتى لا يخسر شعبه في روسيا، وفي ذات الوقت يريد أن يبرهن للعالم وخصوصاً الدول الغربية أنه رجل المرحلة الذي لا ينحني لأحد، وبهدوء محسوب يعطي تعليماته بشأن حل مشكلة نقص المعدات العسكرية في أوكرانيا.
في المقابل تفرج الولايات المتحدة بين الوقت والآخر عن أموال بالملايين ومعدات عسكرية حديثة، وتطالب الدول الأوروبية بتقديم حصص الدعم لأوكرانيا، وقبل يومين أقر مجلس النواب الأميركي مشروع قانون ميزانية الدفاع 2023 بمبلغ قياسي 858 مليار دولار.
هذه الميزانية التي تزيد عشرات المليارات من الدولارات عاماً بعد عام، تعكس تخوف الولايات المتحدة من تزايد النفوذين الصيني والروسي، حيث تخصص مساعدات مادية وعسكرية ضمن الميزانية الدفاعية إلى دول مثل أوكرانيا وتايوان.
من ضمن هذه الميزانية الكبيرة، ستقتطع الولايات المتحدة مبلغ 11.5 مليار دولار للردع الدفاعي في منطقة آسيا والمحيطين الهندي والهادي، وحوالي 6 مليارات إضافية لاحتواء روسيا في القارة الأوروبية العجوز، بالإضافة إلى تخصيص مبالغ لدعم الدول الحليفة والسماح ببيعها أسلحة متطورة.
الميزانية الأميركية تعكس إلى حد كبير رغبة واشنطن في احتواء تنامي النفوذين الصيني والروسي، ومن غير المستبعد أن تكثف الولايات المتحدة جهودها في الأشهر المقبلة لتوسيع وجودها ودعم حلفائها في بحر الصين الجنوبي.
كلما طالت الحرب في أوكرانيا بالنسبة للولايات المتحدة كان ذلك في صالحها على المستويين العسكري والاقتصادي، لأن أوروبا بحاجة لها في مسألة تدفق الغاز الطبيعي المباع بأسعار فلكية، وكذلك شراء الأسلحة الأميركية للتحوط الأمني ودعم أوكرانيا.
في كل الأحوال، حينما يهدد بوتين بالسلاح النووي سواء على شكل ضربة انتقامية أو استباقية، إنما يرفع شعاره الخاص «سلام بوتين» أو «هي الحرب علي وعلى أعدائي»، وسلام بوتين بالنسبة لأوكرانيا والغرب القبول بسياسة الأمر الواقع مع احتفاظ روسيا بالأقاليم الأوكرانية التي ضمتها إليها، وتحييد أوكرانيا عن الوجودين العسكري الأميركي والأوروبي.