لا تستغرب حين تسير في شوارع غزّة وترى أطفالها وهما يلعبون ويركضون خلف بعضهم البعض، وفي بعض الأحيان يتخاصمون وتمتد بينهم إلى الضرب بالأيدي، ولا تتوقف هذه السلوكيات عند هذا الحد، فأنت بكل تأكيدٍ ستسمع ألفاظاً وأقساماً خارجة عن الدين والقيم المجتمعية، فتبادر إما بالصراخ عليهم ليكفوا عن التلفظ بتلك الألفاظ، أو تُغلق أذنيك وتسير في حال سبيلك وتقول في سرك "وأنا مالي، لهم أهل يربوهم".
الألفاظ البديئة والقسم بأغلظ الايمان والتي تعدت أيضاً ألفاظ الكفر والعياذ بالله، لا تقتصر على سماعها في الشارع، لأنّ الطفل الذي يحفظ تلك الألفاظ هو ربما تعلمها من بيئته الصغيرة "بيته"، والسؤال هنا "هل يُتابع الأهل (الأم والأب) سلوكيات أبنائهم؟؟ ويعاقبونهم إنّ أخطأوا أم لا؟؟".
بعد توسيع البحث في تلك الظاهرة المخيفة والمقلقة كانت الصدمة في أنَّ هؤلاء الأطفال يتعلمون تلك الألفاظ في أغلب الأوقات من الأم والأب، وبالتالي يتأثرون بها فيرددونها بينهم وبين أصدقائهم أو مع من يختلفون معه.
العامل النفسي
ظاهرة تربوية مقلقة تهدِّد أجيالا بأكملها، بهذا الجانب يُفسر الدكتور في علم النفس، محمد الكرد، الدوافع والمقدمات حول هذه الظاهرة، فيقول: "إنَّ الطفل في بداية مراحل حياته يكون صفحة بيضاء نكتب عليها ما يحلو لنا، وهنا يأتي دور الأهل قبل المحيط الاجتماعي، في التربية وتعليم أصول الأدب وتعاليم الدين، وما نراه في الشوارع وحتى في بعض البيوت هو سلوك طبيعي أفرزه الآباء وتعلمه صغارهم، سلبًا وإيجابًا".
وأضاف الكرد، في حديثه لمراسلة وكالة "خبر": "إنَّ أقرب مثال على تربية وتنشئة الأطفال بطريقة خاطئة هو أنّ تجد الأم والأب يتشاجران في البيت، فيصف الزوج زوجته بأبشع الألفاظ والعكس وارد، دون أنّ يُبالي بأنَّ طفله يقف أمامهم يسمع ويرى ويكتسب تلك الألفاظ، فلا حرج على صغار يتحدَّث آباؤهم بهذا الأسلوب".
وتابع: "كما أنَّ الغريب في تلك السلوكيات هي أنّ تجد الآباء يقومون بمعاقبة أطفالهم بأشد العقاب وتوبيخهم، والمضحك المبكي هو أنّهم في اللحظة التي يقومون فيها بمعاقبة أولادهم لكي لا يتلفظوا بتلك الالفاظ، ينعتون أبناءهم بالألفاظ ذاتها!!|، وهو بذلك يزيد من إصرار الطفل على ترسيخ تلك الألفاظ والكلمات في عقله حتى بعد أنّ تمت معاقبته".
وأردف: "الأب أو الأم وهما يضربانه أو يعاقبانه لم ينتبها إلى أنَّ أساس الكارثة خرجت من بابهم، وطالما أنّهما مستمران في التلفظ بها داخل البيت ستجد طفلهم يتلفظ بها خارج البيت، دون معرفة الأب، لأنّه يعلم جيداً أن تلك الألفاظ خاطئة ولا يجوز له أنّ يُكررها، ولكِنه يوجه للكبار نفس السؤال -إنّ كانت تلك الألفاظ غير مستحبة في الأسرة أو المجتمع، لماذا يتلفظان بها أمامه وبأشكال مختلفة؟-".
ووجّه الكرد، بعض النصائح لكي يبقى أطفالنا في بيئة سليمة بعيداً عن أيّ شوائب يُمكن أنّ تؤثّر عليهم مستقبلاً، فقال: "يجب على الأهل تجنَّب الحديث عن المشكلات أمام الأطفال؛ لأنَّ الإنسان وقتها يتملَّكه الغضب فلا يُدرك ما يقول".
واستدرك: "كما على الأم والأب مراقبة أطفالهم، ومَن يصادقون ومع مَن يلعبون ويخرجون، وإبعادهم عن الصحبة السيئة، وضرورة تربية الأبناء على قواعد وتعاليم الدين الإسلامي، ولا يمكن إغفال الدور التربوي للمدرسة أيضاً والذي هو أسمى من التعليمي، لتنشئة جيل محترم ومؤدب".
الدور التربوي
ولأنَّ المدرسة هي البيئة الثانية التي لا تقل أهمية عن الأسرة، ودورها في تربية الطفل سلوكياً وتربوياً وتعليمياً، كان لابد من الحديث مع المرشد التربوي، خالد الناجي، حول سلوكيات الأطفال داخل المدرسة وأهم القصص والمشكلات التي تُعرض عليه يومياً في المدرسة، حيث قال: "يوجد في المدرسة ضوابط ولوائح صارمة لا يُمكن لأيّ طالب أنّ يتعداها، فهل رأيتي مُدرساً يتلفظ ألفاظاً خارجة أثناء تدريس الطالب، بالتأكيد لا، لكن من الممكن أنّ تجد تلك الألفاظ في الأسرة تخرج من الأم أو الأب أو أيّ فرد من أفراد العائلة بشكلٍ عفوي".
وبيّن الناجي، أنَّ بعض الطلاب ربما تجدهم خارج أسوار المدرسة يتشاجرون وينهالون على بعضهم بالمسبات، والمدرسة غير مسؤولة عن ذلك، طالما أنَّ الطالب خارج أسوار المدرسة فهو خرج من دائرة مسؤولياتها، أما إنّ حدثت تلك المشاجرة داخل المدرسة يقوم المُدرس ومدير المدرسة بتوجيهه لي للتعامل مع الموضوع بروية، وأقوم بتفهم أبعاد تلك المشكلة ونصحهم بالإضافة لاستدعاء أولياء أمورهم للتحدث معهم.
وأكّد على أنَّ بعض الآباء الذين تطلب المدرسة حضورهم، لا يستوعبوا في بعض الأحيان حجم الكارثة التي فعلها أبنائهم، فإما يستهترون بها ويصل بهم الحال لتأنيبنا على استدعائنا لهم، متحججين بأنَّ المشكلة بسيطة وتحدث بين الأطفال والكبار ولا يستدعي ذلك تعطيل أشغالهم ومصالحهم، وبذلك نُصبح على يقين تام بأنَّ الطفل لم يكن بهذه الصورة السلبية لولا وجود مثل هذا الأب.
ولفت الناجي، إلى أنَّ المدرسة ليست سوطاً مُسلطاً على رقاب الطلاب، فهي لديها وسائل ترغيب وترهيب كثيرة، وتلجأ لجميع الوسائل التي يمكن من خلالها تهذيب الطالب وتعليمه وتوعيته بسوء تصرفاته، مُضيفاً: "بعض الطلبة يتجاوب والبعض الاخر لا يتجاوب فتضطر المدرسة لإنزال العقوبة بحقه".
وختم حديثه، بتوجيه نصيحة للآباء والأسرة بالدرجة الأولى، مفادها أهمية توعية أبنائهم وتربيتهم بصورة صحيحة بعيداً عن الألفاظ النابية والسيئة.
دور الأهالي
محمد حسين، وهو والد 5 أطفال جميعهم في مراحل مدرسية مختلفة، قال: "إنَّه من الصعب أنّ نتمكن من ضبط حديث أبنائنا، فنحن نقوم بتربيتهم جيداً بكل تأكيد، لكِن اختلاطهم بأقرانهم الطلبة والذين هم ربما يكونوا من بيئات وتربية مختلفة عنهم، جعلهم يتعلمون بعض الألفاظ الجيدة والسيئة، ونحن كآباء نُحاول قدر المستطاع توعيتهم، فمجتمعنا الفلسطيني فيه الكثير من سلبيات التربية".
الأم ريهام العطار، قالت أيضاً: "لديَّ ثلاثة أبناء أكبرهم محمد (14) عامًا، عندما يتشاجرون في البيت يتبادلون الألفاظ السوقيّة فأضربهم لتأديبهم؛ فعليًّا لم أربيهم على هذا الأسلوب، لذا حجبتهم قدر المستطاع عن أطفال الحيّ الذين يلعبون أمام منزلنا وأنا أسمعهم وأخجل من نفسي".
أم سامر، تقول أيضاً: "ابني مُصاب بمتلازمة داون "منغولي" أضع له كرسيّاً ليقف بجوار الشباك ويشاهد الناس ويُرَوِح عن نفسه قليلاً، إلا أنّه التقط بعض الألفاظ السيئة جداً من الأطفال الذين يلعبون بالشارع، وحاولت مراراً أن أُنسيه إيّاها دون جدوى، ما يُصيبني بحرج شديد حين يتلفّظ بها أمام الأقارب والجيران".
وتبقى مسؤولية التربية مشتركة بين الأسرة والمدرسة والمجتمع على حدٍ سواء، فجميعهم عليهم مسؤولية متابعة تربية الأبناء وتوعيتهم بمخاطر تلك الألفاظ الخارجة ونهرهم عنها، بعيداً عن الضرب على الأقل في البداية، مع ضرورة ابتعاد الآباء عن الشجار أمام أطفالهم، تفادياً للتلفظ بأيّ كلمات قد يلتقطها الطفل.