إيتمار بن غفير، العنوان اليميني المتطرف الجديد لإسرائيل، هو فعلياً عنوان قديم، قدم المشروع الصهيوني ذاته الذي أقيم بناء على التصور العنصري ذاته الذي يحمله بن غفير للصراع مع الفلسطينيين وسلبهم حقوقهم، وحتى طردهم وقتلهم.
لا يختلف بن غفير عن مؤسّس دولة إسرائيل، ديفيد بن غوريون، في تطرفه، وقد تكون العنصرية المتخفّية في مظهر الضحية عند بن غوريون أخطر من المعلنة عند بن غفير، والتي مارسها بن غوريون خلال الصراع، مرتكباً جرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين، فتلك العنصرية الاقتلاعية التي تخفت تحت خطاب تحريري لضحية عانت من التمييز ساهمت مساهمة حاسمة في تأسيس دولة إسرائيل على أنقاض المجتمع والوطن الفلسطيني، وبدعم دول كثيرة. ولم تكن الجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية وليدة لحظة حرب العام 1948، أو هي إجراء اضطراري في سياقها، فالدراسات الإسرائيلية في تاريخ الصراع، والتي أنجزها المؤرّخون الجدد، أثبتت أنّ هذه الإجراءات قد جرى الإعداد لها مسبقاً، من خلال بناء مجتمع صهيوني منفصل عن المجتمع الفلسطيني، بمعنى بناء مجتمع صهيوني مستقل داخل المجتمع الفلسطيني لاعتبارات اقتلاعية، من خلال شعار "احتلال الأرض" و"احتلال العمل"، فهذا عملياً ما أسّس للحظة الطرد.
صحيحٌ أنّه لم يسجّل على لسان بن غوريون أنّه استعمل تعبير "الطرد" في مواجهة الفلسطينيين، لكنّه مارس أسوأ الجرائم ضدهم. وشهادة اسحاق رابين في كتابه "سجل خدمة" الصادر في 1979 واضحة في هذا الشأن، والذي حذفت الرقابة العسكرية فقرتها من الكتاب، لكنّها تسرّبت إلى الصحافة الأميركية، فعندما سقطت مدينة اللد بأيدي القوات الصهيونية، ذهب رابين مع إيغال آلون إلى بن غوريون لمناقشة الموضوع، حسب المؤرّخ الإسرائيلي، بني موريس، ويقول نص الفقرة المذكورة: "في غمرة المعارك التي كانت محتدمة، اعترتنا الحيرة إزاء مشكلةٍ مزعجةٍ لم يكن بمقدورنا الاعتماد في حلها على أي تجربة سابقة، وهي: مصير السكان المدنيين، نحو خمسين ألف نسمة، في الرملة واللد. ولم يكن لدى بن غوريون جواب أيضاً. وخلال البحث في مقر قيادة العملية آثر أن يلتزم الصمت، جرياً على عادته في مثل هذه الوضعيات. وكان واضحاً بالنسبة إلينا أنّه لا يجوز أن نُبقي وراء ظهورنا جماهير اللدّ المعادية والمسلحة، وبذلك نهدّد بالخطر محور تزويد كتيبة يفتاح التي تتقدّم نحو الشرق. وعندما خرجنا من المقرّ مع بن غوريون، كرّر يغال آلون السؤال: ماذا نفعل بالسكان؟ وعندها أشار بن غوريون بحركة من يده كانت تعني الطرد". وقد استنتج الباحث الإسرائيلي، شاؤول فيبر، في كتابه "رابين ـ صعود زعيم" أنّ إشارة الطرد بيد بن غوريون، لاءمت رغبة كلّ من رابين وآلون اللذيْن طردا السكان عبر جرائم حرب.
منذ البداية، أدرك قادة الحركة الصهيونية، ورغم الادعاء بأنّ المعادلة التي يقوم عليها المشروع الصهيوني هي "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" وإذا كان هذا الكلام ذريعة دعائية، فإنّ هؤلاء القادة، كانوا يعرفون فلسطين جيداً، ويعرفون أنّها مليئة بالسكان المحليين منذ مئات السنين، لكنّهم لا يريدون رؤيتهم في سياق المشروع الصهيوني الذي سيقيمونه على الأرض من دون سكانها. لذلك، لم يعد هناك من يجادل بأنّ إسرائيل بالأساس جرى تصوّرها مشروعاً اقتلاعياً للسكان الأصليين، أي أنّها ولدت بالأساس مشروع طرد. ولم نكن نحتاج المؤرخين الإسرائيليين الجدد لاكتشاف الجريمة الصهيونية بحق الفلسطينيين، فكلّ من يريد أن يرى وله عينان يعرف أنّ الجريمة كُتبت على أجساد الفلسطينيين، وكان يمكن أن يراها من خلال مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين الذين سلبتهم أرضهم ووطنهم وحتى أملاكهم وأشياءهم الشخصية، وألقوا خارج البلاد. وكان يمكنه أيضاً أن يرى مئات آلاف اللاجئين في عشرات مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي انتشرت في الدول المجاورة، وكان يستطيع أن يراها أيضاً في تقارير الأمم المتحدة عن الصراع.
جاء بن غفير واليمين الإسرائيلي العنصري من صلب الصهيونية بوصفها مشروعاً عنصرياً، ولم تكن إسرائيل يوماً غير ذلك في الصراع على الأرض مع الفلسطينيين، والتقسيم الإسرائيلي للساحة السياسية ليمين ويسار، هو تقسيم خاص، لا يقترب من القضايا الجوهرية المتعلقة بطبيعة الصهيونية وطبيعة مشروعها وأهدافها في فلسطين. واليسار الإسرائيلي الذي جرى تصويره بوصفه التيار السياسي الإسرائيلي الواعد بالسلام مع الفلسطينيين لم يكن سوى كذبة، حتى في أوج عملية السلام مع رابين، الرجل الذي اعتبره العالم بطل سلام وحاز جائزة نوبل للسلام، كانت حكومته قد جلبت إلى الأراضي الفلسطينية آلاف المستوطنين، على الرغم من الاتفاق على "عدم فرض وقائع جديدة على الأرض"، لكنّ هذا كان كلاماً فارغاَ، فأصحاب وعد السلام، وأقصد بذلك اليسار الإسرائيلي، هم من جلبوا إلى الأراضي الفلسطينية عشرات آلاف المستوطنين منذ حرب 1967. وبالمقارنة مع الأعداد التي جلبتها الحكومات اليمينية إلى المستوطنات، هناك تفوّق لليسار الإسرائيلي الذي فقد وزنه ودوره في السنوات الأخيرة في ظل جنون العالم، بما فيه إسرائيل، بالتوجّه نحو اليمين الشعبوي والعنصري.
يعاني الفلسطينيون منذ تأسيس إسرائيل من السياسات الإسرائيلية العنصرية، بصرف النظر عن الائتلاف السياسي الذي يحكم إسرائيل، يمينياً كان أو يسارياً، سواء كان إسحاق رابين أو مناحيم بيغن. ولا تقوم الفروق بينهما على الأهداف الحقيقية، بل على الطريقة التي يجب فيها تحقيق هذه الأهداف، ففي وقتٍ لبس اليسار الإسرائيلي القفازات الحريرية، عندما حكم إسرائيل وارتكب الجرائم بحق الفلسطينيين، أتى اليمين الإسرائيلي ليخلع هذه القفّازات، ويرتكب الجرائم ذاتها، في الحالتين، القبضة الإسرائيلية القاتلة ذاتها تستخدم ضد الفلسطينيين.
ليس بن غفير واليمين العنصري في إسرائيل سوى الوجه الحقيقي لإسرائيل، صحيح أنّه الوجه الذي لا تريده أن يظهر إلى العلن، وتريد إبقاءه مخفياً، لكنّ هذا لا يغير من أنّ العنصرية الإسرائيلية التي يمثلها بن غفير هي الأساس المكون لدولة إسرائيل، وما أفرزته الانتخابات الإسرائيلية أخيراً من نتائج جنحت باتجاه العنصريين، سوى العامل الكاشف حقيقة إسرائيل.