غروسمان والانتقال من الزمن الاصفر الى الزمن الاسود

lFDcS.png
حجم الخط

بقلم : حمدي فراج

 

 

كان من أبرز المتحدثين في المظاهرة الاسبوعية الثالثة ضد حكومة نتنياهو الاديب الاسرائيلي الشهير ديفيد غروسمان البالغ من العمر 69 عاما ، والذي عرف في الاوساط الفلسطينية بأنه صاحب فكرة "الزمن الاصفر" قبل حوالي اربعين سنة ، حين استوحاها من عجوز فلسطيني ، يجلس قبالة بيته في احد مخيمات الضفة ، وأخبره بالريح الصفراء التي سرعان ما ستأتي و تقتلع اسرائيل . كان غروسمان انذاك في ريعان شبابه ، و لم يكن قد فقد ابنه الضابط في الجيش في الحرب على لبنان مع حزب الله عام 2006 ، و مع ذلك تبنى رؤية العجوز الفلسطيني "الزمن الاصفر" ، لكنه اليوم في خطابه الى المتظاهرين ، يتجاوز ذلك الى ما اسماه "الزمن الاسود" الذي يجتاح اسرائيل و ديمقراطيتها و يهوديتها واخلاقها ... الخ ، انها تحترق ، يقول في خطابه ، و هي لم تعد بيتنا الآمن ، معظم من يلتقيهم من الشباب لا يريدون الاستمرار في العيش هنا، إسرائيل كما هي اليوم لم تعد وطنهم ، ولتجنب المعاناة من الشعور بالغربة ، يذهبون إلى نوع من المنفى الداخلي ، و من الواضح أن شيئًا ما يحدث بشكل خاطيء ، إذا أصيبت حالة سيادة القانون بجروح خطيرة ، فإن جميع المعارك المهمة الأخرى ستنهار تدريجياً .
يكبرني صاحب الزمنين الاصفر والاسود بعامين فقط ، ولدت في خيمة بمخيم حديث الانشاء اسمه مخيم الدهيشة ، واعتقد ان فكرة الريح الصفراء التي استلهمها غريسمان كانت من عجوز في نفس المخيم ، كانت ولادتي في شهر شباط بدون اي نوع من التدفئة باستثناء النتش "جمع نتشة" التي كانت شقيقتي الكبرى "ثريا" تجوب الجبل المقابل "مدينة الدوحة اليوم" لتتقتلعه بيديها الطفلتين ، كانت بنت تسع سنوات ، و كانت تتنافس مع العشرات غيرها في الصراع على من يرى النتشة قبل الآخر كي يقتلعها لتحظى خيمته ببعض الدفء . كان هم أختي هو هم أمي ، انا لا أموت من البرد القارس الذي يتربص بالاطفال حديثي الولادة ، و بالامطار التي تحاصر الخيمة من جهاتها الستة ، السماء والارض ايضا ، و كانت "ثريا" تعتقد ان ابقائي على قيد الحياة مرهون بها ان تحصل على النتشة ، و انها لن تسامح نفسها اذا ما عادت بخفي حنين .
هل انتهى زماني الاسود بانتهاء ازمة الدفء يشع في خيمتي ؟ ربما انتهى بالنسبة لجيل النكبة الاول ، جيل جدي عندما مات وانا ابن ثمانية أعوام ، بموته انتهى زمانه الاسود ، إذ كان يحلم في عز النهار ان يعود الى وطنه في قرية زكريا و يجلس تحت جميزته الاثيرة ، أما أنا ، فقد ابتدأ زماني الاسود ؛ الحصول على الطعام ، كانت امي لا تمد يدها في الصحن الا عندما نشبع كلنا ، الطفولة في شوارع مليئة بالطين ، مدارس تفتفقد لكل المقومات ، بيت صغير لعائلة موسعة بدون كهرباء و لا ماء ، العمل منذ نعومة الاظافر وأذكر انني عملت في حوالي عشرين مهنة ، من بيع الجرائد العبرية والاسكمو والعتالة وصناعة الصدف و خشب الزيتون و جلي الصحون في المطاعم وورش البناء ... الخ ، ناهيك عن السجن والاقامات الجبرية ، و ما زال زماني الاسود الذي صنعتموه لنا مستمرا حتى اليوم .