موجة يسارية جديدة في أميركا اللاتينية... أيّ آفاق؟ (2 من 3)

حجم الخط

بقلم داود تلحمي

 

 

 

موجة يسارية سابقة
افتتحها هوغو تشافيز
وكانت أميركا اللاتينية شهدت موجات يسارية سابقة في الماضي، كان أحدثُها، قبل الموجة الأخيرة، تلك التي بدأت مع انتخاب هوغو تشافيز رئيساً لفنزويلا في كانون الأول  1998. وشملت تلك الموجة انتخاب عدّة رؤساء يساريين بين العامين 2002 و2011 في كلٍ من البرازيل وأوروغواي وهندوراس وبوليفيا والإكوادور ونيكاراغوا وباراغواي وبيرو، على التوالي. لكن هذه الموجة لم تلبث أن شهدت محاولاتٍ لكسرها في عملياتٍ انقلابية، «برلمانية» في عددٍ من الحالات، مع وجود تدخلاتٍ خارجية واضحة، وهي عملياتٌ بدأت في هندوراس في العام 2009، حيث جرت الإطاحة بالرئيس المنتخب مانويل سيلايا، ثم في باراغواي العام 2012 مع الإطاحة بالرئيس المنتخب فرناندو لوغو، تلتهما محاولةٌ فاشلة للإطاحة بالنظام اليساري في فنزويلا في العام 2013، وهو العام الذي شهد الوفاة المبكّرة والمثيرة للتساؤلات لرئيس البلد وأبرز رموز هذه الموجة اليسارية، هوغو تشافيز. كما شهدت البرازيل «انقلاباً برلمانياً» في العام 2016 أطاح بالرئيسة اليسارية ديلما روسيف، المنتخبة مرتين عامي 2010 و2014، والمنتمية لنفس حزب الرئيس «لولا».
وكانت الأعوام 2016-2018 قد شهدت نجاح مرشّحين يمينيين في انتخابات الأرجنتين وبيرو وتشيلي. لكن النتائج الكارثية على أوضاع المواطنين لسياسات هذه الأنظمة التي التزمت بالنهج الاقتصادي النيوليبرالي، أفسحت المجال أمام مرشحي اليسار للعودة إلى واجهة الأحداث في هذه البلدان الثلاثة.
وكاد «لولا» يعود إلى الحكم في انتخابات الرئاسة البرازيلية في أواخر العام 2018، كما كانت تؤشّر كل استطلاعات الرأي، لولا إلصاق تهم فسادٍ به وزجّه بالسجن، حيث أمضى 580 يوماً. وهو ما أتاح المجال لانتخاب العسكري السابق واليميني المتطرف جايير بولسونارو في ذلك العام، قبل أن تتراجع السلطات القضائية في البلد عن الاتهامات الموجّهة للرئيس «لولا» وتطلق سراحه، ويُفسَح له المجال للترشّح في انتخابات خريف العام 2022، والفوز فيها.
يبقى أن نشير إلى كون الحكام اليساريين الجدد ليسوا من مدرسةٍ واحدة، فالبعض منهم كانوا من أصولٍ يسارية راديكالية مثل رئيس تشيلي الجديد، وأحدهم كان عضواً في حركةٍ مسلّحة مناهضة للحكم، وهو رئيس كولومبيا الجديد. ولكنهم يتميّزون جميعاً برغبةٍ في تلبية تطلّعات جمهورهم لوقف التدهور المريع للوضع المعيشي لغالبية السكان، ومعالجة تبعات تطبيقات السياسات النيوليبرالية السائدة منذ الثمانينيات الماضية، ومواجهة نسب الفقر العالية والتفاوتات الرهيبة في المداخيل ومستويات المعيشة بين كبار الأثرياء والغالبية الساحقة من السكّان، كما والتصدّي للتهميش والإذلال اللذين تعرّضت لهما الشعوب المحلية الأصلانية وقطاعات واسعة من الفئات الشعبية في الأرياف والمدن.
ومن الواضح من الآن أن كافة هؤلاء الزعماء اليساريين ليسوا من الصنف الأيديولوجي المتزمّت الذي عرفته بعض بلدان العالم في القرن الماضي (كمبوديا في النصف الثاني من السبعينيات، على سبيل المثال). فهم يتعاملون مع المعطيات الملموسة في بلدانهم بروحٍ عملية تسعى لتحقيق نتائج، مع تفاوتٍ، بالطبع، في احتمالات النجاح بين بلد وآخر، ومع استبعاد الحديث في كل الحالات عن إمكانية تجاوز النظام الرأسمالي وتحقيق «تحوّلٍ اشتراكي» في أي أمدٍ منظور، وحتى إشعارٍ آخر. ذلك أن التحديات كبيرة أمام هذه الموجة اليسارية الثانية خلال ربع القرن الأخير، خاصةً مع الأزمات الكبرى التي شهدها الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة نتيجة جائحة «كورونا» وأزمات الوقود ومصادر الطاقة، خاصةً بعد التدخّل العسكري الروسي في أوكرانيا، وما نجم عن مجمل هذه التطورات من تنامي نسب الفقر في العديد من بلدان العالم، ومن انعكاسات على حركة استيراد المواد الأولية أو المصنّعة التي تنتجها بلدان «العالم الثالث»، ومنها القارة اللاتينية، وبالطبع من أسعار المواد التي تستوردها.

المنطقة الوحيدة في العالم
التي تشهد مداً يسارياً
ومن اللافت أن تكون القارة الأميركية اللاتينية هي المنطقة الجغرافية الواسعة الوحيدة في عالم مطلع عشرينيات القرن الحادي والعشرين التي تشهد مثل هذه النجاحات اليسارية. فيما تعيش مناطق عديدة أخرى في أنحاء العالم انتصارات لليمين القومي الشوفيني، المتطرف في عدة حالات، كما حصل في بعض بلدان أوروبا الغربية، ومن بينها السويد وإيطاليا مؤخراً، وقبل ذلك بلدٌ آسيويٌ كبير مثل الهند. فشبه القارة الهندية يحكمها منذ العام 2014 حزبٌ قوميٌ هندوسي يميني (بهاراتيا جاناتا)، بعد أن عاش هذا البلد عقوداً طويلةً منذ استقلاله في العام 1947 في ظل حكوماتٍ أقرب إلى ما يمكن اعتباره اليسار الوطني أو يسار الوسط، فيما كانت بعض ولاياته الرئيسة، مثل البنغال الغربي (99 مليون نسمة)، تنتخب حكوماتٍ إقليميةً تقودها جبهةٌ يسارية (ماركسية) لأكثر من ثلاثة عقود متتالية (من العام 1977 حتى العام 2011).
ولا شكّ أن انهيار التجربة السوفييتية قبل أكثر من ثلاثين عاماً ما زال يجرجر تأثيراتِه على عالم اليوم، حيث يستدعي الحديث عن الخيار اليساري والتوجه الاشتراكي في العديد من مناطق العالم ذكرياتٍ مُرّةً عن تعرّجات ومآلات التجربة السوفييتية... وهي التجربة الهائلة التي كان ملايين البشر قد علّقوا عليها آمالاً كبيرةً، في عقودها الأولى على الأقلّ، لبناء عالمٍ أفضل وأكثر عدالةً... وهي التجربة التي تأثّرت بها بقوة تجاربُ تحرريةٌ يساريةٌ عديدة، خاصةً في أنحاء العالم الفقير والمستعمَر سابقاً، المعروف باسم «العالم الثالث»، ومن بينها تجربتا الصين وفيتنام المهمّتان في آسيا.
ومن اللافت طبعاً أن تكون بلدان أوروبا الشرقية التي كانت مرتبطةً، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بالتجربة السوفييتية بشكلٍ أو بآخر، سواء منها تلك البلدان التي كانت متحالفةً بشكلٍ وثيق مع الاتحاد السوفييتي - خاصةً في إطار ما كان يعرف باسم «حلف وارسو» - أو تلك التي كانت على خلافٍ أو تباينٍ مع القيادة السوفييتية (ألبانيا، رومانيا، يوغسلافيا)، شهدت، بعد الانهيار السوفييتي، غلبةً واسعة للخيارات اليمينية في برامج وسياسات حكوماتها المنتخبة وتراجعاً ملموساً لدور القوى اليسارية، وحتى أحياناً لقوى يسار الوسط التي نشأت فيها بعد الانهيار السوفييتي. ناهيك عن كون يوغسلافيا الاتحادية قد تفتّتت إلى سبعة بلدان.