لم يكن ظهور المجموعات المسلحة في جنين ونابلس العام الماضي سوى نتيجة طبيعية لتداعيات ومسار وصل لحظته التصادمية وأنتج أدواته اللازمة لتملأ فراغا يتسع منذ سنوات، ووصل ذروته العام الماضي بتكامل العديد من عوامل الصدام في جنين ونابلس وغيرهما من المناطق .
وإذا كان الأمر يسير على الجانب الإسرائيلي بتخطيط وهندسة دقيقين فهو على الجانب الفلسطيني يفرزه الواقع.
وهذا ربما ما يغيب عن كل الفواعل في ملف الصراع وأبرزهم الإدارة الأميركية التي تقفز على كل ما هو قائم.
ورغم المؤشرات شديدة الوضوح من الجانب الإسرائيلي، أنها تتقدم برؤيتها المنفصلة عن الواقع بالحديث عن سيطرة السلطة على نابلس وجنين كما جاء في خطة الجنرال مايك فانزل والتي تتحدث عن إنشاء قوة خاصة يتم تدريبها وإرسالها لمنطقتي نابلس وجنين.
لم تفقد السلطة سيطرتها هناك بسبب ضعف الأجهزة، بل بسبب فقدانها القدرة على الاستمرار نتيجة المناخات التي تشكلت وأدت أيضا إلى تراجع دافعيتها للعمل فقد بات عمل السلطة كما السابق مستحيلا في ظل الظروف التي ولدتها إسرائيل، وإن ساهمت المجموعات المسلحة في زيادة إضعاف السلطة في إطار الاشتباكات مع إسرائيل وهنا تولدت دائرة جديدة من الصراع تغذي نفسها من هذا الصدام الذي لم يساهم فقط في تحييد وتهميش السلطة تآكل دورها وقدرتها ودافعيتها بل دفع عناصر من أجهزتها للانخراط في العمل المسلح حيث سجل العام الماضي أكثر من ثمانية شهداء من قوات السلطة خاضوا اشتباكات مع الجيش الإسرائيلي.
عوامل ضعف السلطة كثيرة سجل بعضا منها الجنرال أودي ديكل من معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، حيث أشار إلى فقدان الأفق السياسي كواحد من أبرز تلك العوامل وفقدان شرعية قيادة السلطة مشيرا إلى الاستطلاعات التي تعكس تراجعا في حضورها.
وإن كان ديكل لم يشر للأسباب الأبرز وهي الاقتحامات التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في مناطق سيطرة السلطة ما يجعلها تقف عاجزة أمام الشارع وكذلك أيضا تخفيض مكانتها في العلاقة مع إسرائيل من الشريك السياسي الذي سيقيم دولة للفلسطينيين إلى من يقوم بإدارة السكان، فقد اقتصرت علاقة إسرائيل مع السلطة من خلال وزير الدفاع وبما يخص الحاجات الإنسانية للسكان أي تحويل السلطة بما يشبه إدارة مدنية.
وبصرف النظر عن أخطاء داخلية وقعت بها السلطة العام الماضي «مقتل معارض سياسي وإلغاء الانتخابات وقضية اللقاحات وتجربة وقف استيراد العجول» ساهمت بقدر غير قليل في انحسار التأييد الشعبي والحاضنة الجماهيرية، لكن يمكن القول إن هناك عدة عوامل ساهمت في إضعاف السلطة الفلسطينية لكن أغلب تلك العوامل لم يكن بمعزل عن الرغبة والتخطيط الإسرائيليين حيث كان ذلك جزءا من نقاش موسع بين قادة الأمن خلال أيلول الماضي وقد حسم الأمر باتجاه الاستمرار بالسياسة الإسرائيلية نفسها ما يعني مزيداً من إضعاف السلطة وقد حصل .
بصرف النظر عن الرغبة الأميركية التي لم تعد تعني شيئاً في واقع أكثر تعقيداً من اقتراحاتها السطحية والضعف الأميركي الفاضح في مواجهة الحقائق تبدو حلولها أشبه بنكتة حيث استبدال الأفق السياسي بشبكة هواتف محمولة واقتراح أن تعمل السلطة طواعية على إعدام نفسها كما قال الرئيس الفلسطيني عن خطة الجنرال الأميركي فانزل، ومع هذا فإن الأمور تسير بفعل الواقع والرغبة الإسرائيلية المستجدة بعد الحكومة الجديدة باتجاهات مغايرة كلياً.
مر شهر على تشكيل حكومة نتنياهو الجديدة التي تضم أكثر المتشددين في إسرائيل والذين لم يخفوا في برامجهم الانتخابية رغبتهم بإعادة السيطرة على الضفة الغربية وإنهاء وجود السلطة فيها، وبصرف النظر عن إدارتها للسكان فهم يعتبرونها تحمل دلالات رمزية لكيان فلسطيني في «أرض التوراة» بدأها بن غفير بإعلانه العداء للعلم الفلسطيني.
جاءت اتفاقيات الائتلاف الحكومي لتقضي بمزيد من إضعاف السلطة الفلسطينية، وبدأت الحكومة بترجمتها منذ الأسبوع الأول الذي تمثل برمزية زيارة بن غفير للأقصى وتوسيع الاستيطان وشرعنة البؤر وتهيئة الظروف للضم واقتطاع أموال المقاصة للشهر الثاني على التوالي.
كل هذه الإجراءات تعني فقط استهداف وجود السلطة وإضعافها تمهيداً لتفكيكها بما ينسجم مع شعارات الصهيونية الدينية وبرنامج حكومتها، وإن أشار يائير لابيد إلى أن الحكومة لا تعرف كيف ستتصرف حين تنهار السلطة.
نحن أمام رغبات متعارضة بين الرغبة الأميركية والدولية بإبقاء السلطة والرغبة الإسرائيلية بتفكيكها. فهل ستتمكن إسرائيل من تحقيق رغبتها وتصطدم مع المجتمع الدولي ؟ هذا السؤال يبدو بريئاً بصيغته المجردة. لكن إسرائيل أكثر ذكاء من هذا لن تقوم بفعل ذلك بشكل مباشر بل ستهيئ الظروف وستضعف السلطة ماليا ومعنويا وستجعل الفلسطينيين يقومون بفعل هذا تماما كما فعلت بالانقسام في غزة ونفذه الفلسطينيون بأيديهم وبدت بريئة من ذلك ويمكن أن نكون أمام السيناريو الآتي:
أن تنتظر غياب الرئيس الفلسطيني وتقوم في الخفاء بتسعير الصراعات بين قوى السلطة تماماً كما فعلت في غزة وحينها نحو مزيد من التشظيات وغياب السلطة المركزية نحو حكم بلديات وإدارة السكان. وأن تستغل تلك اللحظة وتلك الصراعات بدفع عناصر للقيام بمهاجمة مقرات السلطة.
وعلينا أن نتذكر أن استمرار الانقسام بين الفلسطينيين لا يضع حركة حماس في موقف معارض لتفكك السلطة في الضفة بل كعنصر داعم له وتلك واحدة من مآسي الفلسطينيين وكان يمكن التصدي لكل هذا بالانتخابات التي تم إلغاؤها...ولكن.