جيلٌ من الفتية والشباب في مقتبل عمرهم، في أيّ مجتمعٍ آخر تكون لديهم العديد من الأحلام والآمال لبناء مستقبلٍ مشرق، ما بين بناء أسرة أو الحصول على وظيفة تؤمن لهم حياتهم المستقبلية، إضافةً إلى أحلام السفر والتنقل، لكِن في فلسطين ظهر جيلُ جديدُ من الشباب الذين ولدوا بعد اتفاقية "أوسلو"، وأحيوا نهج المقاومة من جديد في مدن الضفة والقدس المحتلتين، فجُلّهم لا تتجاوز أعمارهم الـ30 عامًا، وإنّ رأيتهم كمظهرٍ خارجي تستبعد أنّ يكون هؤلاء الشباب والفتية من حملة سلاح المقاومة في يومٍ من الأيام.
في ليلة وضحاها شكّلوا بمحض إرادتهم ومما رأوه من انتهاكاتٍ من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، كتائب مسلحة بمسمياتٍ مختلفة، منها "كتيبة جنين"، و"كتيبة نابلس"، و"عرين الأسود"، و"كتيبة بلاطة"، و"كتيبة عقبة جبر"، إلى أنّ تنتشر تلك الكتائب في كافة محافظات الوطن، إضافةً إلى ما نراه من عملياتٍ فدائية فردية لا تنتمي لأيّ تنظيم أو فصيل فلسطيني، فما هي دوافعهم للمضي في هذا الطريق وما تداعياته على الاحتلال؟.
وفي حوارٍ خاص لوكالة "خبر" الفلسطينية، مع الأكاديمي والمختص في الشؤون الدولية د. علاء أبو عامر، للحديث حول تلك الدوافع، أشار إلى أنَّ الدافع الأهم هو الاحتلال الإسرائيلي، وهذا أمر لا شك فيه، إضافةً إلى وجود فراغ في العمل الوطني، فلا ثقة لدى الشعب الفلسطيني في السلطة الفلسطينية، وبالتالي في قيادة حركة فتح، وباقي الفصائل الفلسطينية، حيث أصبح عملها شعاراتيًا وإعلاميًا دون أيّ فعل، والاحتلال بممارساته اليومية لا يترك مجالًا إلا ويستفز المواطنين، خاصةً جيل الشباب من خلال قمعه وعنصريته، وإقامة جدرانه، وهدمه للبنيان، وإهاناته لكل ما يتعلق بما هو فلسطيني وعربي وإسلامي ومسيحي، من أرض وأماكن عبادة ورموز وطنية ودينية وغيرها.
فيما أكد الباحث والمحلل السياسي، د. سميح خلف، على أنَّ جذور المشكلة تعود إلى أنَّ هناك احتلال وفي الحالة الطبيعية يجب مقاومته بكافة الوسائل، ومن غير الطبيعي أنّ يُراهن أصحاب التسوية السياسية على مسح ثقافة أجيال وخداعها واحتواء عقولهم بما يقدموه من ثقافة التسوية، وحسن الجوار، ومراعاة أمن الجار، فهذا احتلال لأرض أجداد هذا الجيل، ويُمارس بحقه القتل والبطش والهدم للحجر والبشر يومياً، وشعور الآباء ووعي الأبناء بمدى المعاناة التي تُعانيها الأسر والعائلات أيضاً أمام تفاوت طبقي حاد وفساد أفرزه الاحتلال على واقع البنية الاجتماعية في الضفة، وخاصةً في المخيمات الفلسطينية، والشعور أنّ الذاتية الوطنية الفلسطينية مستهدفة والمواطنة أيضًا في ظل حياة مرفهة للمستوطنين الذين يشاهدونهم يوميًا في المستوطنات المجاورة لمنازلهم، بالإضافة إلى خطاب عاجز لسلطة مهمتها أنّ توفر الحماية لشعبها وعجز مطلق وفشل في مشروع السلطة السياسي، فعندما يكون الشعور بمستقبل مظلم سيختار هؤلاء الفتية أنّ يدخلوا على حاجز الشعور والمشاعر بما هو أقوى من اليأس، وبالتالي سيصلون إلى مقاومة تعبر عن ذاتهم في واقع فشل الجميع.
كما ذكر المختص في الشؤون الإسرائيلية، أ. إياد جودة، أنَّ الاتجاه السائد في هذه الأثناء هو ردود فعل عفوية لا تنتمي لأيّ تنظيم، ولا أيّ حزب سياسي وهو نتيجة للظلم الواقع على شعبنا الفلسطيني الذي بدأ الشباب الفلسطيني بالتخلص منه بطريقتهم الخاصة، متخطين الردود النمطية والتي لها علاقة بالأحزاب، وبالتالي وجدنا الآن كيف أنّ المنظومة الأمنية الإسرائيلية تعجز عن الوصول إلى معلوماتٍ استخباراتية نتيجة أنّ العمل فردي بنسبة 100%، وبالتالي لا يمكن لأيّ جهاز أمن بالعالم أنّ يعي ما يدور داخل فكرة شاب ما، ولكن عليهم جميعاً أنّ يراقبوا ملايين الفلسطينيين من الشباب حتى يمنعوهم وهذا ما لا يمكن أن يحدث أبدًا.
ولفت إلى أنّ المجموعات التي شُكّلت مؤخرًا، هي عامل طبيعي من عوامل المتغيرات الطبيعية لمراحل النضال الفلسطيني، وهي ليست أمراً طارئاً على الثورة الفلسطينية، فكثيرًا ما كانت تنشأ مجموعات وفق الحاجة، أو وفق اللحظة الراهنة.
وحول تخوفات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من العمليات الفردية التي يقوم بها الشباب الفلسطيني، بيّن د. أبو عامر، أنَّ الاقتحامات هي السبب المباشر في تشكيل الكتائب المُسلحة، في ظل عدم تأدية السلطة لدورها بسبب الاتفاقيات الأمنية، فهؤلاء الفدائيين الذين لا يرون في السلطة حامياً ومدافعاً عنهم يتداعون للدفاع عن أنفسهم، وعن كل من يؤمن بفعلهم وأهدافهم وهي مخيماتهم.
وبيّن أنَّ الاحتلال لا يُميز في عدوانه فهو يهدم ويقتل دون تمييز بين الفلسطينيين، فكل فلسطيني هو هدف قابل للقتل، أو التدمير، فحينما تقوم السلطة بدورها تنتفي الحاجة للتشكيلات المسلحة، مُستدركاً: "لكِن أيضاً فإنَّ أبناء الأجهزة الأمنية أو أبنائهم هم مكوّن أساسي في هذه الكتائب، وهذا يعني أنّهم لم يعودوا يؤمنون بسياسة السلطة وتوجهاتها".
واعتبر أنّ كل ذلك عبارة عن بوادر لإنشاء تنظيمات جديدة على أنقاض القديمة البالية التي انتهى دورها بفعل ممارسات قيادتها، وتخليهم عن دورهم والتهائهم بمصالحهم وبذخهم على حساب العمل الوطني والنضالي
فيما رأى خلف، أنَّ التغير في أسلوب مقاومة الاحتلال يخضع لمتغير فرضه الاحتلال وفرضته السلطة أيضاً بالتزاماتها المختلفة، فمن السهل القضاء والإجهاز على مجموعات المقاومة المنظمة لأسباب كثيرة، منها التفوق العسكري والأمني للاحتلال، ودعماً لوجستياً من عملاء زرعهم الاحتلال عبر أكثر من 50 عاماً لاحتلاله الضفة، وهذا ما يحدث في جنين ونابلس، والمخيمات ومناطق أخرى، في الضفة.
وشدّد على أنَّ العمليات الفردية والمبادرة بعقل واحد وليس عدة عقول يُفشل كل ما يمتلكه الاحتلال ومعاونيه من وسائل أمنية، مُستشهدًا بقول رئيس وزراء الاحتلال السابق إبان انتفاضة الحجارة "شاب يُريد أنّ يموت ويُفجر نفسه ماذا نستطيع أنّ نفعل للوقاية منه"ـ وذات الرد كان على العمليات والمواجهات الفردية.
كما استشهد خلف، بموقف الفيتناميين الذين نصحوا القيادة الفلسطينية بعدم الإسراع في الانتقال من مرحلة العصابات والمجموعات الصغيرة، قبل أنّ تحقق أهدافها في زرع الذعر في صفوف الاحتلال وتشتيت قواهم الأمنية، تمهيدًا لجعل مناطق عملياتهم مكلّفة على الاحتلال أمنياً وبشرياً واقتصادياً.
واستدرك: "لكِن الكل يعرف والمتتبعين لحركة النضال الوطني، أنّ القيادة تخلت منذ السنوات الأولى وبعد الخروج من الأردن عن الثورة الشعبية والكفاح المسلح، وكان خيارها خط التسوية، وكان هذا على حساب هيكلة قوات فتح وإنهاء جناح العاصفة، ومن ثم كان لهم رأي آخر أيضًا، فقالوا "كلما زادت مسافة الاشتباك بين المقاومة والاحتلال كلما كان هدف التحرير صعبًا بل يصل إلى الفشل".
ومن جانبه، أكّد جودة، على أنَّ العديد من الآثار النفسية والأمنية لها دور في التخوفات من العمليات الفردية، مُبيّناً أنَّ الفكرة هنا تكتمل في أنّ المنظومة الأمنية لا يُمكن أنّ تقول إنّ لديها معلومات استخباراتية، لأنَّ من فكّر وقرّر ونفّذ شخص واحد استفزه الإجرام الصهيوني، ووفق طبيعته الخاصة قرّر ونفّذ، لذلك هذا النوع من العمليات هو الأخطر على النظام الأمني الإسرائيلي.
وحول دور الحاضنة الشعبية لشباب المقاومة، شدّد أبو عامر، على أنّه لا يمكن لظاهرة نضالية أنّ تنجح دون الحاضنة الجماهيرية، فالمناضل كما السمكة في الماء دون ماء لا حياة له، وكذلك المناضل دون جماهير داعمة وحامية وحاضنة لا يُمكن أنّ يستمر.
كما لفت خلف، إلى أنَّ البنية الاجتماعية والتاريخية المستوعبة والتي عاصرت النكبة وما بعدها من ويلات وعذابات، وما زالت تتعرض لنفس السلوك والوسائل من الاحتلال والرافضة لسلوك التدجين والكذب والاحتواء والقبول بالواقع التي يُمارسها فئة على الشعب، هي تلك الحاضنة المشجعة والملهمة للشباب.
وأضاف: "لا ننسى حرائر فلسطين ودورهن الرائد من أمهات الشهداء والأسرى وجلدهن بفقدانهن أكثر من فلذة كبد من أبنائهن في أعراس الشهداء، وبما تتميز هذه الجنازات من فخر وعز وبهاء احتفالًا بالشهيد"، مُتابعاً: "كل ذلك يجعل من التضحية الفردية والاستشهاد لدى الشباب دافع لنيل الشهادة والوعد بالجنة وفي الدنيا الشرف والكبرياء لأهله".
وأكّد جودة، على أنَّ رد فعل الجمهور الفلسطيني كان كافيًا لإعطاء الأمل في نفوس كل من يُفكر في مثل تلك الأعمال، وشكّلت بكل ثقل أهمية بالغة، فهي حاضنة تُعاني من الإجرام الصهيوني على مدار الساعة، لذلك فإنَّ المشاطرة في الحدث تأتي بطريقة مختلفة في التعبير، ومتفقة جدًا في النتيجة التي مفادها بأنَّ الكل يُبارك الانتقام من القتلة ويُحمّل المسؤولية للاحتلال، لأنّه لولا الجرائم التي تُنفذ يومياً بحق أبناء شعبنا الأعزل لما كان رد الفعل هذا الطبيعي.
وأكمل: "إضافةً إلى ذلك ولدحض كل الادعاءات التي تُحاول إسرائيل تبرير هجومها على أبناء شعبنا في المخيمات، فإنَّ ما حدث في منطقة تُسيطر عليها إسرائيل أمنيًا بشكلٍ كامل، وبالتالي فإنَّ الفشل مسؤوليتها والعمليات التي يقوم به الشباب مسؤوليتها، ولا حل إذا أرادت إسرائيل الاستمرار في عدوانها، إلا أنّ تجعل لكل فلسطيني جندي يرافقه على مدار الساعة وحتى لو فعلت هذا فإنها لن تنجح".
وفي رسالة موجّهة من أبو عامر للشباب لمواصلة مسيرهم المقاومي، قال: "لا يمكن لأيّ فلسطيني إلا أنّ يوجّه لهم التحية، ويدعمهم بما يمكنه إعلامياً أو مادياً، أو المباركة بالدعاء والتمنيات، فهذه الظواهر الوطنية بحاجة إلى سندٍ معنوي ومادي".
وتابع: "إنَّ الخوف عليهم هو من الاختراقات والظهور الإعلامي، فأيّ ظاهرة نضالية من هذا النوع كي تنجح وتستمر بحاجة إلى السرية، وعليهم أنّ لا يُكرروا تجربة الفصائل السابقة بالتباري في الإعلام عليهم، وأنّ يكونوا مختلفين عما سبق، عندها يمكنهم الاستمرار والنجاح".
واستكمل: "فما لديهم من نَفَس وطني واستعداد للتضحية مع وحدة الهدف كافيان كي يغيروا من الواقع الفصائلي الفاسد، ويأخذوا المجتمع الفلسطيني والقضية الفلسطينية إلى المربع الذي يجب أنّ تبقى فيه، وهو مربع المواجهة المستمرة مع الاحتلال وأعوانه حتى تحرير فلسطين".
كما توجّه خلف برسالة للشباب المقاوم الصاعد، بالقول: "رحم الله من مضى منكم شهيدًا من أجل الله ووطنه وشعبه، وبوركت سواعدكم وخياراتكم الفردية الناضجة التي تُعبر عن ضرورة المرحلة من تضحية أمام فشل وعجز وارتباط وانقسام واستعراضات على الفضائيات، في حين أنّ العدو كل يوم يزداد بشاعة وقهر لأهلكم ولكم، ويتوسع في أراضيكم ويهدم منازلكم ويُسلح مستوطنيه ويقتحم الأقصى، ويُدنس باحاته، محاولًا دفن الوطنية والتاريخ الفلسطيني على هذه الأرض".
بدوره، توجّه جودة برسالته للشباب المقاوم، جاء فيها: "ندعمكم ونشد على أياديكم والحذر الحذر من الاحتلال الصهيوني، وأساليبه وخداعه، لأننا نسير بخطى ثابتة لا يريدها الاحتلال نحو الحرية والدولة، ولأنَّ الثورة الفلسطينية ولّادة جاءت بفكر القرار المستقل والانعتاق من المحتل وتجسيد الدولة على الأرض".
وأردف: "دون هذا فلا يمكن أنّ يبقى شعبنا مُتفرجاً على جرائم الاحتلال، ولا مجال أمام المحتل إلا الإقرار بحقوق شعبنا وأنّ يعي أنّ السلام العادل والشامل القائم على قرارات الشرعية الدولية، والتي تؤكد على أحقية شعبنا في دولة مستقلة على حدود 67، وتواصل جغرافي وبدون مستوطنات وعودة اللاجئين وتحرير الأسرى هو الحل الأوحد لتنعم المنطقة كلها بسلام متبادل".