بقلم : د رائد العبادلة
تحتل روسيا أهمية خاصة ،ليس فقط لأنها لاتزال قوة عالمية عظمي بالمعيار العسكري ،وبمعيار المساحة ،والموارد الأقتصادية ،والقدرات الكامنة العلمية والتكنولوجية ،ولكن نظراً لما شهدته خلال السنوات الماضية ،منذ تولي فلاديمير بوتين رئاستها عام 2000 من خطوات جادة للعودة إلي مسرح السياسة العالمية ،بعد سنوات من تفكك الإمبراطورية ،وبروز بوادر خطر من إحتمال التجزئة والأنفصال لجمهوريات ،ومناطق عن جسد الدولة الروسية نفسها .
في هذا السياق أكد الرئيس الروسي عناصر محددة في إستراتيجية السياسة الخارجية الروسية وهي .(1) وجوب أن تكون هذه السياسة وسيلة لتحديث روسيا (2)أولوية العلاقات مع دول الإتحاد السوفيتي السابق (3)أن العلاقات مع أوروبا تمثل أولوية تقليدية ،ولا توجد بدائل للتعاون مع الإتحاد الأوروبي والناتو ، مع ضرورة التعاون مع الدول الواقعة علي الساحل الأسيوي من المحيط الهادي من أجل تطوير سيبيريا . ورغبة منه في جعل السياسة الخارجية تتسق مع متطلبات السياسة الداخلية سعي بوتين إلي الإحتفاظ لروسيا بأكبر قدر من حرية العمل بعيداً عن الشعارات مثل الديموقراطية ،وحقوق الإنسان ،والحضارات الغربية ،رافضا الدخول في تحالفات تقوم علي هذه المفاهيم مفضلا العمل المباشر مع الأطراف المعنية ،والقدر الذي يحقق مصالح بلاده ،ويكفل لها دوراً علي المسرح العالمي ،بغض النظر عن أي أمر أخر . والمتأمل لسياسة روسيا الخارجية ،منذ تولي بوتين السلطة وحتي الأن يجد نوعاً من الشراكة مع الغرب في العديد من المجالات (رغم بقاء روسيا خارج المنظومة الغربية تنظيميا)علي قاعدة المصالح المشتركة للجانبين ،وليس إستناداً إلي وحدة القيم بينهما . وفي مجالات أخري ،بدا التباين في المواقف بين الجانبين واضحاً .
والواقع أن سياسة روسيا الخارجية ،خلال ولايتي بوتين الأولي والثانية (2000_2008).إنطلقت من القناعة بأنه لم يعد للغرب تأثير يذكر في عملية صنع القرار في روسيا فبعد أن قامت بسداد ديونها حصلت موسكو علي كامل استقلالها عن مؤسسات التمويل الدولي وفضلا عن ذلك فإن معظم النخبة والمزاج العام في المجتمع الروسي يعتقد بين هدف الاستراتيجية الغربية ،ومنذ انهيار الإتحاد السوفيتي وهي ضمان ضعف روسيا من الناحية الجيوسياسية ،وخضوعها للتحالف الأطلنطي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية .وربما أن بوتين قد قام بمواجهة هذه الإستراتيجية فقد شن الغرب حملة علي روسيا شملت محاولات لاحتواء نزعتها لسياسة خارجية مستقلة ، من خلال توسيع الناتو شرقاً وإقامة قواعد عسكرية في آسيا الوسطي ،ودعم الثورات الملونة في كل من جورجيا وأوكرانيا ،وقيرغيزيا ، بل وتشجيعها الأول علي شن الحرب علي روسيا نفسها في أغسطس 2008.
وفي تصوره لدور روسيا في منطقتها والعالم في القرن الحادي والعشرين يتحدث سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي عن دخول العالم مرحلة جديدة سماها مرحلة ما بعد أمريكا . مستطرداً أنه لا يقصد بطبيعة الحال عالم ما بعد الولايات المتحدة الامريكية أو عالما بدونها . مضيفاً أنه عالم تراجعت فيه الأهمية النسبية لدور الولايات المتحدة بسبب ظهور مراكز قوي عالمية أخري أما فيما يتعلق بالزعامة ،فيري لافروف أنها موضوع أخر يعني في المقام الأول التوصل ألي أتفاق بين شركاء والقدرة علي أن تظل الأول ولكن بين متساويين .
وبطبيعة الحال يؤكد لافروف عودة بلاده لما سماه السياسات العالمية والإقتصاد العالمي والتمويل ،كلاعب فاعل وبكامل قوته مشيراً في ذلك إلي أن عناصر القوة لدي بلاده ممثلة في مكانتها في سوق الطاقة العالمية ،وأسواق الحبوب ،وزعامتها في مجال الطاقة النووية وأستكشاف الفضاء ،ودور الروبل كوحدة من العملات العالمية التي يمكن الأعتماد عليها .
اخيراً ،من المهم الإشارة إلي أنه بالرغم مما تتسم به سياسة روسيا الخارجية من واقعية فإن هناك نخبة سياسية وعسكرية لا يستهان بها ،حول بوتين ،لاتزال تعتقد في إمكانية تحقيق فكرة روسيا كدولة عظمي كما كان الإتحاد السوفيتي السابق وهو أمر يصطدم بحقائق إقتصادية وإجتماعية وجيوسياسية يستحيل معها وضع ذلك موضع التنفيذ ،علي نحو ما سبقت الإشارة إلية فالإقتصاد الروسي لا يستطيع تحمل أعباء القوة العظمي .
وفي هذا السياق ،تكفي الإشارة كمثال إلي حقيقة أن موسكو دائما ما تؤكد أن العلاقات مع دول الإتحاد السوفيتي السابق تمثل الأولوية علي قائمة أهتمامات السياسة الخارجية الروسية ومع ذلك فإن نظرة الجهود التي بذلتها روسيا ،في محاولة منها لإستعادة نفوذ الإتحاد السوفيتي السابق في هذه الدول ،والتي تمثلت أساسا في خلق منظمات متعددة للتعاون الإقتصادي والسياسي والعسكري تكشف بوضوح عن إستحالة تحمل الإقتصاد الروسي التكلفة المادية لخلق شراكة حقيقية ، تقدم موسكو بموجبها قدراً من الدعم الإقتصادي أو حتي الإنساني لتلك الدول ،التي بدورها فضلت الإحتفاظ بحرية علاقاتها الخارجية والإنفتاح علي قوي أخري يستطيع مساعدتها كالصين والهند والإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الامريكية .
واعتبر العديد من القراء أن التدخل الروسي في سوريا يمثل أول أستخدام للقوة العسكرية خارج نطاق الجوار الروسي منذ نهاية الحرب الباردة ،وهو يمثل تحولاً مهما فيما يتعلق بالإستراتيجية الروسية للتفاعل مع واقع عالمي جديد ومن المتوقع استخدام تكتيكات جديدة مثل اعتماد أهداف "محدودة" ، استخدام تكتيكات" الحروب الهجينة " ، الإعتماد علي الوكلاء ، المناورات الخارجية لتحقيق أهداف داخلية ، اعتماد سياسة التحالفات البرجماتية . هذا يمثل امتداداً للتحولات في الإستراتيجية العسكرية الروسية وعمليات الإصلاح الداخلية وربط علاقاتها بشراكات جديدة في الإقليم العربي .