الأزمة الإسرائيلية إلى أين؟

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

 


عاد هذا السؤال إلى واجهة المشهد الإسرائيلي من جديد، وعادت الآراء لتختلف حول وجهة الأحداث، وحول مآلات المرحلة القريبة القادمة، وحول "المستقبل" الإسرائيلي لسنوات طويلة قادمة، وذلك في ضوء "إجبار" بنيامين نتنياهو على تأجيل معركته حول "الإصلاح القضائي".
الحقيقة أنّ ثمة من يرى أن نتنياهو قد تراجع، وأنه قد خسر معركة، وأن كلّ مخادعاته ومناوراته لن تنفعه في شيءٍ جوهري وحقيقي؛ لأن هذا التراجع هو مقدمة لنهاية دوره، بعد أن "تأكّدت" نهاية مكانته، ولم يعد لا مَلِكاً، ولا مُنقِذاً، ولا حتى قادراً على الهروب، لا إلى الأمام، ولا حتّى إلى اليمين واليسار، ووجهته الوحيدة هي الخلف فقط.
لكنّ هناك من يرى أن نتنياهو أقدم على "وقف الاندفاعة"، أو المضيّ قُدُماً بمسار إصلاحاته القضائية دون أن يتراجع، وأنه سيكون قادراً ومستعداً للفصل الجديد من معركته بعد أكثر قليلاً من شهر واحد، مع عودة "الكنيست" في الدورة الجديدة بعد الأعياد.
المفاوضات لن تصل إلى حلول وسط بالسهولة التي يتحدث عنها البعض، والهدف منها كسب الوقت، ووقف اندفاعة الشارع الإسرائيلي، وفكفكة "الملفّات" الجديدة المطروحة على طاولة نتنياهو إلى حين انتهاء "الهدنة" التي تمّت بموجب هذا التراجع.
ولكي نحاول قراءة الأزمة الإسرائيلية في ضوء المستجدات الأخيرة، أظنّ أن علينا إعادة ترتيب وتصنيف أوراق هذه المستجدات.
لفهم طبيعة "التراجع" الذي أقدم عليه نتنياهو، علينا أن نُجيب عن السؤال الآتي:
لو أن نتنياهو لم يتراجع بعد إقالته لوزير الجيش يؤاف غالانت، وبعد الاندفاعة الهائلة إلى الشوارع، وبعد أن تجاوز "الشلل القومي" كل الخطوط الحمراء، وبعد أن دخلت "الهستدروت" على خطّ هذا الشلل، هل كانت إسرائيل اليوم أمام حريقٍ أم (لا)؟ الجواب: (نعم)، وبكل تأكيد.
وهل كان أحد في إسرائيل يملك القدرة على منع حرب شارع مقابل شارع، أو كان بمقدوره منع الحرب الأهلية وانشطار المؤسّسات وانقسام الجيش، أو السيطرة على "الفوضى" العارمة؟
الجواب هنا، أيضاً: (لا) بالمطلق.
لهذا فإن أهونَ الشرور بالنسبة لنتنياهو هو "التراجع".
أيّ حلّ وسط هنا سيُفاقم من أزمة الائتلاف، ومن المؤكد أنه سيفكّك هذا الائتلاف ويطيح بالحكومة.
وأيّ حلّ وسط سيفقد قيادة "المعارضة" القدرة على ضبط الشارع، وقد تتم أزمة كبيرة في الصفوف الأولى لهذه "المعارضة".
إذاً هذا "التراجع" في الواقع أعاد مفاقمة الأزمة إلى مراحل أعلى، وأكبر وأخطر لأن الحفاظ على الحكومة أصبح باهظ الثمن، والحفاظ على تماسك "المعارضة" أصبح وارداً ومرجّحاً إذا لم يتم فهم الواقع الجديد.
على نتنياهو الآن أن "يحلّ" الأزمة الجديدة التي خلقها لنفسه بإقالة غالانت، وذلك بعد أن تحوّل الأخير إلى "نجمٍ" سياسي كبير، وبعد أن رفض مقايضة منصبه بالاستقالة من عضوية الكنيست.
وعلى نتنياهو أن "يحلّ" الأزمة القادمة مع وزير القضاء (العدل) ياريف ليفين، لأن هذا الوزير يعتبر المفاوضات مجرّد "هدنة" لمعاودة الهجوم من جديد، وهو في الواقع يقف قلباً وقالباً مع الانقلاب بالكامل، وهو أكثر تشدُّداً من عُتاة الفاشيين، ويرى في نجومية غالانت خطراً شديداً عليه، وهو في قرارة نفسه كان يطمح لـ "وراثة" نتنياهو في اللحظة السياسية المناسبة.
ونتنياهو، عليه أن "يحلّ" أزمته مع إيتمار بن غفير لأن هذا الأخير لن يقبل بأقلّ من ميليشيا مجهّزة، ومسلّحة جيّداً من "شبيبة التلال" ومن عُتاة المستوطنين الشباب، الجاهزين لـ "حرب التطهير العرقي"، وللقتل والإجرام ضد فلسطينيي الداخل، وضدّ الناس العزل في الريف الفلسطيني، وعلى أطراف مدن الضفة الغربية دون استثناء.
وعلى نتنياهو أن "يحلّ" أزمته مع إعادة تعريف صلاحيات الجيش، والتي يمكن، بل من المرجّح أن تؤدّي إلى "سحب" صلاحيات بتسلئيل سموتريتش من وزارة المالية لكي تعيدها إلى الجيش، واحتمالات "تمرُّد" سموتريتش على الحكومة، إضافة إلى إعادة تعريف صلاحيات جهاز الشرطة.
ثم على نتنياهو أن يعيد ترتيب "حزب الليكود"، لأن أقلية متزايدة باتت تعتبره عبئاً على وحدة الحزب، و"عقبة" أمام مستقبل الحزب كلّه، إذا لم يتمّ إخماد الحريق في إسرائيل وبأقصى سرعة.
ولهذا فإنّ "تراجع" نتنياهو أوقع الائتلاف الحكومي في أزمةٍ جديدة، وأوقع "الليكود" في أزمةٍ جديدة، وأوقع إسرائيل في أزمةٍ جديدة أكبر ممّا كانت عليه.
المراهنة الوحيدة التي يراها نتنياهو كبصيص أمل هي "استمالة" بيني غانتس، و"الاستغناء" عن كلّ من بن غفير وسموتريتش، وتشكيل حكومة جديدة قد تُبقيه كرئيس للحكومة، على أمل أن يفلت من المحاكمات.
برأيي ليس لدى نتنياهو، ولم يعد في جُعبته سوى هذه المراهنة، وهو يعرف أن "خلاصه" الوحيد هو هذه المراهنة بالذات.
من هنا، ومن هذه النقطة، علينا أن نحاول قراءة مستقبل "المعارضة الرسمية" التي تعتقد أنها ما زالت تقود حركة الاحتجاج.
أكبر دليلٍ على "بشائر" أزمة "المعارضة" هو أن غانتس سارع إلى "تقديم" نفسه لنتنياهو، ما يدلّ على أنه ــ أي غانتس ــ سيدرس هذه الإمكانية، ولم يقطع الطريق، ولن يقطعها عن سابق وعي، وعن سابق نيّة وتخطيط.
لكن غانتس الذي "لُدِغَ" من نتنياهو سابقاً، لن يُلدغ بسهولة في هذه المرّة.
بل إن غانتس، ربما يناور هو الآخر للإيقاع بنتنياهو في اللحظة المناسبة، وقد يتمكّن من إسقاطه بعد أن يفقد نتنياهو عُتاة "اليمين الفاشي"، وبعد أن يفقد القدرة على إعادة التحكُّم بـ "الليكود"، وبعد أن "يوافق" على الشروع الرسمي بإعداد دستور جديد لإسرائيل.
"الدستور" الذي تحدّث عنه زعماء "المعارضة"، والذي سيُنظر إليه باعتباره "الحلّ" الممكن "لتشذيب" الانقلاب القضائي، والطريقة الأمثل لاستعادة نظام الحكم والدولة الإسرائيلية، الليبرالية والديمقراطية، من وجهة نظر هؤلاء.
لكن هذا كلّه "كوم" وإفلات نتنياهو من المحاكمات هو "كوم" آخر.
الشارع الإسرائيلي الهادر ضد نتنياهو لن يوافق بالسهولة التي يتصوّرها زعماء "المعارضة" على حلول وسط، لأنّ المسألة بدأت بتجاوز المنحنى السياسي للأزمة، وأصبحت تتعلّق بصراع أعمق وهو مكانة كل الطبقة الوسطى، والقاعدة الاجتماعية الواسعة لهذه الطبقة من غالبية اليهود الغربيين "الأشكناز" وأقلية متزايدة من اليهود الشرقيين "السفارديم".
كما أن غالبية كبيرة من فلسطينيي "الداخل"، يرون في هذه المساومات الخطر المُحدِق بهم، ويرون أن "اليمين الفاشي" يُعدّ لهم، ويُجهّز الأرضية لكي يفتكَ بهم.
ويضاف إلى هذا كلّه ما ينتظر شعبنا في الضفة الغربية من كل أنواع الأخطار بما فيها الإبادة، والتطهير والترحيل والمجازر التي ستتحوّل إلى "القوت" اليومي لبقاء الفاشية في واجهة الأحداث والمشهد.
دون أيّ مبالغة فإن الحلول الترقيعية المطروحة لن تؤجّل تفاقم الأزمة إلّا قليلاً تمهيداً لجولاتٍ قادمة قد تنجم عنها مغامرات ومقامرات من كلّ الأنواع والأصناف ومن أخطرها، ليس على الشعب الفلسطيني فقط، وإنّما على الواقع الإسرائيلي كلّه.