خلافاً لصورته العامة فإن الحرم (المسجد الأقصى) مكان هادئ جداً، معظم الوقت. مع ذلك، لا توجد أماكن كثيرة مسؤولة عن هذا القدر الكبير جداً من العنف مثله. الآن في رمضان وتصاعد التوتر حوله، يعود مرة اخرى ليشتعل وليُشعل.
في هذه السنة كان جزء من شهر رمضان في فترة عيد الفصح، الذي له أهمية خاصة بالنسبة لليهود الذين تعودوا على زيارة الحرم، ويحاولون في كل سنة تنفيذ وصية تقديم قرابين الفصح. ولكن هذه المجموعة غير كبيرة بشكل خاص. عملياً، حسب استطلاع أجراه معهد فإن لير فان 28 في المئة من الإسرائيليين دخلوا مرة واحدة عبر أبوابه. نصفهم دخل مرة واحدة فقط، أما الآخرون فيسمعون عنه بالاساس في ايام الأزمة.
على كل الأحوال، الحرم ليس فقط نقطة احتكاك بين اليهود والمسلمين، الإسرائيليين والفلسطينيين، بل هو ايضا أشبه بمن متنزه فيه تستجم العائلات الفلسطينية. هو مكتظ بعشرات المباني القديمة والمدارس ومحطات الشرطة والمكاتب وما شابه. معظمها له تاريخ طويل. ومن اجل فهم النزاع بشكل افضل يجب التعرف اكثر على ما حدث وما يحدث هناك.
جسر المغاربة
يؤدي جسر المغاربة الى باب المغاربة، وهو المدخل الوحيد الى الحرم المخصص لغير المسلمين. يمشي الزوار فوق مبنى خطير، فشلت كل محاولات استبداله. الأردن يعارض، وجهاز الامن يحذر من أن اقامة جسر ثابت في المكان يمكن أن تؤدي الى موجة عنف. الجسر هو استعارة كاملة للقدس الموحدة. فقد اعتبر خطيراً، وأقيم كتسوية مؤقتة، وتحول الى دائم، ومنذ ذلك الحين تحول جزءاً من الوضع الراهن، رغم أنه لا أحد يذكر لماذا.
في غضون ذلك تبذل إسرائيل الجهود من أجل صيانة الجسر: تقوم باستبدال الأوتاد، وتضيف المزيد من المواد التي تطفئ الحرائق، وتأمل أن تصمد، حيث يطلب المهندسون ورجال الشرطة تعزيز هذا الوضع المؤقت وإعاقة الاشتعال دون معرفة الى متى. هذه هي القدس.
الوصول الى الباب كان حتى العام 2004 عن طريق أكوام ترابية كانت كتلة أثرية غنية. في تلك السنة انهار جزء من اكوام التراب وتم استبدالها بجسر مؤقت من الخشب، بقي معلقاً منذ ذلك الحين فوق ساحة النساء في "حائط المبكى". مهندسو مدينة القدس وخدمات الاطفاء حذروا من الخطر، لكن الخوف من اشتعال اقليمي ومن ازمة سياسية مع الاردن تغلبت على المخاوف. زيارة بن غفير في كانون الثاني للحرم، التي حصلت على إدانة من الأردن ومن دول عربية اخرى، وأحداث الاسبوع الماضي، كل ذلك أوضح بأن هذا الخوف ما زال قائماً.
على مدخل الجسر يحصل الزوار على إحاطة من الشرطي المناوب. في الأيام الحساسة تكون الإحاطة أكثر حزماً، ومن المحظور الصلاة أو السجود، ومن المحظور قطف ورقة أو رفع حجر؛ لأن المسلمين يرون في كل ما يوجد في الحرم جزءاً من مسجد مقدس. في الايام الاكثر هدوءاً تقل التحذيرات.
معظم اليهود، الذين يقومون بزيارة الحرم، يفعلون ذلك بدافع ديني، وطبقا لقواعد الشريعة، بعد الغطس في المطهرة وبدون احذية من الجلد. مع مرور السنين تحسنت العلاقة بين الزوار ورجال الشرطة، لكن استمرت الجهود لتطبيق التعليمات. يمكن ايضا زيارة الحرم كـ "سائح"، أي كعلماني. في هذه الحالة تكون معاملة الشرطة وحراس الاوقاف صارمة اكثر.
التنسيق والتعاون بين الشرطة وبين منظمات "جبل الهيكل" وصلت الذروة في ايام الوزير المسؤول عن الحرم، بن غفير، الذي حيث هو وزوجته نشيطان رئيسيان في المنظمة.
يتم الدخول الى الحرم عبر الباب الأخضر في باب المغاربة. على الأغلب ينتظر هناك حراس الاوقاف الذين يطلبون في بعض الاحيان من الناس ارتداء ملابس محتشمة. اليهود المتدينون يرافقهم رجال شرطة، بعضهم يحملون ادوات لتفريق التظاهرات، ويراقب حراس الاوقاف من بعيد.
الى جانبهم، يوجد في الحرم سياح، ومسلمون شيوخ، ونساء يقرأن القرآن، واولاد يلعبون، وعمال نظافة يعملون في الساحات الحجرية الكبيرة. المسجد الاقصى هو المبنى الاكثر قدسية في منطقة الحرم بالنسبة للمسلمين. في ايام التوتر يتحول ساحة للصراع الاكثر عنفا في منطقة الحرم.
في السنوات الاخيرة تبلور اطار ثابت للمواجهات، التي تتطور على الاغلب في فترة اعياد اليهود أو المسلمين في أعقاب توتر امني أو بسبب شائعات لها اساس أو بدون اساس حول تغيير الوضع الراهن: شباب فلسطينيون يتحصنون في المسجد. في الشرطة يقولون إن اخلاء الشباب بالقوة هو احيانا حيوي من اجل السماح باستمرار الروتين في الحرم. هذا ما حدث في الاسبوع الماضي عندما قام رجال الشرطة باقتحام المسجد، واعتقلوا مئات الشباب الفلسطينيين. التوثيق في المكان الذي ظهر فيه ايضا رجال الشرطة وهم يهينون المعتقلين كان عاملا مهما في التوترات الامنية الاخيرة.
ضحايا ثابتة في هذا الصراع هي النوافذ الزجاجية الجميلة الموجودة فوق الأبواب. في رمضان في السنة الماضي تم تهشيم معظم النوافذ. وبعضها لم يتم اصلاحه طوال اشهر. أيضا مساء أول من أمس استعدوا في شرطة القدس لاقتحام المسجد، لكن يبدو أنه في اللحظة الاخيرة تراجعت الشرطة وامتنعت عن الدخول، ضمن امور اخرى، بسبب الضغط من جهات سياسية ومن قلق أمني. في الشرطة اوضحوا بأنه خلافاً للاسبوع الماضي فان المتحصنين في المسجد لم يتسلحوا بالحجارة والمفرقعات. بعد ذلك تبين أن القرار كان صحيحاً؛ لأن زيارة اليهود للحرم مرت بدون احداث استثنائية.
في حين أن الطرفين يتصادمان في المكان، فحتى على اسمه لا يوجد اتفاق. المتحدثون بالعبرية يسمون المسجد على الاغلب بـ "الاقصى"، في حين أن الفلسطينيين يسمونه المسجد القبلي. هذا الفرق يؤكد على الفجوة بين الطريقة التي يرى فيها الإسرائيليون الحرم وبين الطريقة التي يراه فيها الفلسطينيون.
الأسماء المختلفة ليست صدفية. الرؤية الفلسطينية في العقود الأخيرة هي أن كل الحرم مسجد. وجميعه يسمى الأقصى. طبقا لذلك فان الفلسطينيين يعارضون مطالبة نشطاء "جبل الهيكل" بالصلاة في الحرم. الذريعة هي أنه لا يوجد مكان لصلاة غير اسلامية داخل المسجد، كما أنه لا يمكن اجراء صلاة غير يهودية في كنيس.
هكذا تم محو الاسماء القديمة للحرم بالعربية. والاسم السابق، الاقصى، الذي أصله موجود في القرآن تحول اسما حصريا. المسجد الكبير في جنوب الحرم اخذ اسم القبلي، لأنه كان القبلة (اتجاه الصلاة) الاولى التي اليها صلى النبي محمد.
من يفسرون الاسلام والمؤمنون يشيرون الى الاقصى وكأنهم يشيرون الى "المسجد الأبعد" الذي يوجد في القرآن. أساساته من فترة هورودوس واجزاء اخرى فيه تم بناؤها وترميمها على يد حكام مسلمين وصليبيين وعثمانيين على مر الأجيال. يمكن أن يصلي فيه 5 آلاف شخص في الوقت ذاته.
غير المسلمين لا يمكن أن يدخلوا مباني الحرم، بما في ذلك المسجد الأقصى، وسبب ذلك هو العلاقة التي تطورت بين إسرائيل وبين الأوقاف في الـ 22 سنة الأخيرة منذ زيارة ارئيل شارون الى الحرم. تم إغلاق الحرم امام اليهود والسياح في الانتفاضة الثانية التي اندلعت بعد ذلك. وتمت إعادة فتحه أمامهم في 2003 من قبل إسرائيل بدون موافقة الأوقاف. الآن ايضا ترى الاوقاف في زيارة اليهود الى الحرم خرقاً للوضع الراهن، ويُسمى الحجاج الى الحرم مقتحمين. توجهت الاوقاف والحكومة الاردنية عدة مرات الى إسرائيل في محاولة للتوصل الى اتفاق حول زيارة اليهود والسياح الى الحرم، لكن في المفاوضات غير الرسمية بين الطرفين طلبت الاوقاف الاسلامية منع دخول بعض اعضاء "أمناء جبل الهيكل" البارزين، لكن إسرائيل رفضت ذلك.
منذ وفاة فيصل الحسيني في بداية الانتفاضة الثانية لم يقم للفلسطينيين زعيم بنفس مستواه. بعد فترة قصيرة على موته أغلقت إسرائيل المؤسسات الفلسطينية في المدينة، وبعد ذلك أقامت جداراً وسوراً قانونياً على صورة قانون المواطنة بين شرقي القدس والضفة الغربية. القدس في هذه الأيام هي نتيجة قرارات اتخذت في حينه، حيث فصل الجدار في الواقع بين القدس والضفة، لكن الحرم واصل كونه رمزا وطنيا ودينيا بالنسبة للفلسطينيين، والعنف الذي يخرج من الحرم يستمر في إحداث موجات في أرجاء البلاد.
عن "هآرتس"
«ربيع ساخن» على الشرق الأوسط والعالم
09 يناير 2025