تمر اليوم ذكرى النكبة المشؤومة على الشعب الفلسطيني، تلك الذكرى التي لم تجلب له سوى مزيداً من الألم والوجع، في كل سنة يستذكر الفلسطينيون في أنحاء العالم ما فعله الاحتلال بهم وتشريده لهم، وسرقة بيوتهم وأراضيهم، وقد أصبحوا مشتتين في بقاع العالم مغتربين وغرباء، يحنون للعودة لأراضيهم ليتنفسوا هواءها الذي لطالما حلموا به.
المواطنون في غزّة ودوناً عن أيّ بقعة من فلسطين أصبحوا يدفعون الثمن مضاعفاً يومياً وسنوياً، فمصيره إما القتل أو التشريد، في ظل أنَّ الاحتلال النازي يُمعن في قصف المدنيين الأبرياء وهم في بيوتهم، على مرأى ومسمع العالم ولا أحد يُحرك ساكناً بعضهم من يرى أن لما تُسمى "إسرائيل" لها الحق بالدفاع عن نفسها، ومنهم يصدر عنه شعارات ومناشدات باهتة ومتأخرة تدعو الطرفين بالكف عما يسمونه أعمال عنف، في ظل ذلك لا يسع الفلسطيني إلا للتمسك بما تبقى له من أرض ويُدافع عنها بكل ما أوتي من قوة، فتتحد الأيدي وتُدافع عن المدنيين والأرض.
وعلى سبيل المثال لا الحصر ما حدث قبل يومين من عدوانٍ غاشم على قطاع غزّة والذي استمر خمسة أيام، وأسفر عن استشهاد ثلاثة وثلاثون مواطناً وإصابة العشرات ناهيك عن تدمير عشرات المنازل وتشريد أهلها.
فبعد خمسة أيام من العدوان تكبد فيها قطاع غزّة خسائر إنسانية واقتصادية بالملايين، واستخدم فيها الاحتلال كل أنواع الأسلحة المتطورة لقتل المدنيين من صواريخ وطائرات انتحارية وقنابل، وحينما انتهت الأيام الخمس "وما إن أُعلن عن تهدئة تدخلت فيها مصر وبعض الأطراف العربية"، سكنت أصوات الدمار على صوت الوجع والألم الذي كان يختبئ من صوت القنابل، ونفضت غزة غبارها عن عشرات قصص الموت في كل حي ومدينة.
نجت من الموت قبل عامين فلاحقها مجدداً
ولعل من القصص المأساوية ما حدث مع الطفلة "سوزي اشكنتنا" التي نجت بأعجوبة قبل عامين من مجزرة مروعة ارتكبها الاحتلال بحق عائلتها، وفي هذا العدوان أيضاً نجت من موتٍ محقق، عندما قصفت طائرات الاحتلال، مساء الجمعة، شقة سكنية مقابلة لمنزل جدتها في حي النصر شمال غربي مدينة غزّة.
حيث قام والدها باصطحابها لشقة جدتها، آملاً في أنّ تجد الأمان في كنفها وبصحبة أولاد عمها الذين يقطنون مع جدتها في نفس الشقة، لكنه لم يكن يعلم أنّه كان يصحبها لأقرب مكان سيُشكل خطراً على ابنته ذات الـ9 أعوام، وفي لحظة ودون سابق إنذار قام الاحتلال باستهداف شقة سكنية في حي النصر شمال غزّة، تلك الشقة هي في الواقع تقع في طابق يضم ثلاثة شقق غيرها، وفي حال تم استهدافها سيُشكل خطراً كبيراً وسيوقع مزيداً من الأرواح بين الأطفال والنساء، وبالعودة لمنزل جدة سوزي فهو يقع على بعد مسافة بناية واحدة من الشقة التي استهدفها الاحتلال بصاروخ من طائرة انتحارية لاغتيال عضو المجلس العسكري لسرايا القدس مسؤول وحدة العمليات فيها الشهيد إياد الحسني.
وفي لحظة الانفجار سارعت سوزي وجدتها وأسرة عمها للنزول بعد أنّ امتلأت المنطقة بالغبار الأبيض ورائحة البارود والموت تنبعث منه، تسابقوا هرباً من الموت، ومشاهد الدمار التي لم تزل عالقة في ذاكرة سوزي، حيث جاء الاحتلال ليضيف لها ذكرى جديدة لا تقل ألماً عما سبقتها، فالطفلة الصغيرة التي كانت تعتقد أنّ البناية التي لجأت إليها ستشعر بالأمان فيها، كانت قريبة جداً من انفجار كاد أنّ يودي بحياتهم جميعاً.
والدها قال: "حينما سمعت بجريمة الاغتيال تملكني الخوف على صغيرتي التي لم تنسى بعد ما حدث معها ولم تخرج من صدمة استشهاد والدتها وأشقائها"، واصفاً مشهد ابنته حينما ارتمت بين أحضانه في الشارع وهي تقول:" أنا خايفة ..خايفة من الموت" بالمؤلم، وكأنه كُتب على الفلسطيني أنّ يُلاحقه الموت في كل مكان.
يُذكر أنّ سوزي فقدت عائلتها في نفس هذا الشهر قبل عامين خلال معركة "سيف القدس" وفقدت فيها والدتها وأشقاءها الأربعة: دانا ويحيى ولانا وزين إثر غارة جوية إسرائيلية دمرت المنزل المكون من 4 طوابق فوق رؤوس سكانه. وكانت سوزي ووالدها الناجيين الوحيدين، بعدما قضيا ساعات مدفونين تحت الركام، قبل أنّ يتم إخراجهما وإسعافهما
تحضرا لرحلة مدرسية فقتلهما الاحتلال
ومن قصص الألم على سبيل المثال لا الحصر، ما حدث مع الطفلين ميار وعلي عز الدين الذين، كانا يتحضران ويستعدان للخروج برحلة مدرسية، وبعد أنّ قاما بتجهيز أمتعتهما ذهبا مسرعين لفراشهما لكي يستيقظان مبكراً ويذهبان مع أصدقائهم في رحلة ممتعة، لكن الاحتلال بتعطشه لدماء الفلسطينيين أرسلهما لرحلة أخرى، رحلة أبدية لن يرى فيها ظلماً ولا قتلاً ولا هما، ففي ساعات الفجر الأولى امتدت يد الغدر اليهما ولأسرتهما وانفجر المنزل بمن كان فيه أصبحوا تحت الركام.
يُذكر أنّ ميار وعلي هما نجلي الأسير المبعد من جنين طارق عز الدين فكان قدرهما الإبعاد والتهجير ومن ثم الاستشهاد مع والدهم، وقد أصيبت والدتهم وشقيقهم الأكبر والطفل عز الدين وكتب لهم أنّ يعيشوا ليتجرعو الألم ويرووا جريمة لا يتصورها عقل ولا تخطر على بال شيطان ارتكبها الاحتلال بحقهم وهم نائمين.
أما جميلة طارق عز الدين، الابنة الكبرى للشهيد فهي محرومة من رؤية عائلتها منذ ثلاثة أعوام، بعد أنّ خرجت من غزّة إلى عرابة عروساً، ولم تصدق أنّ والدها وشقيقها قد استشهدا وهي التي كانت على موعد معهم لرؤيتهم هذا الأسبوع، وكانت تنتظر الأيام والساعات لكي تمر لتراهم وتحكي لوالدها ووالدتها كل ما كان في قلبها من اشتياق، وتأخد اخوتها الصغار في حضنها الذي حرموا منه، فحُرمت منهم للأبد ولم يتسنى لها حتى توديعهم وتقبيلهم ، لتبقى فرصة لقائهم حسرة في قلبها طوال العمر.
لم يسلم ذوي الاحتياجات الخاصة من جرمهم
الاحتلال وعلى مدار أعوامه الممتدة من القتل والتدمير والسرقة والنهب والتزييف والتحريف، فهو الذي لم يترك جانباً من جوانب الشيطان وأعماله وجريمة من الجرائم إلا وقد ارتكبها بحق الفلسطينيين، فقد امتدت يده القذرة لقصف منزل يضم أربعين فرداً، عشرة منهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، بصورة كلية، وقد أمهلهم بضع دقائق لم يستوعبوا فيها ما يحدث حولهم، فخرجوا بعد أنّ هرع إليهم الجيران يُخبرونهم بأنَّ الاحتلال يُريد قصف منزلهم، فخرجوا بالملابس التي يرتدونها فقط خائفين وغير مصدقين ما يحدث، وبعدها قامت الطائرات بقصف عمارتهم "عمارة خالد نبهان" المكونة من ثمان شقق في أربعة طوابق وسوتها بالأرض، وتسببت في أضرار بمنازل مجاورة.
وبعد أنّ تم قصف المنزل نظر كل من كان في المنزل إلى بيتهم المدمر وهم لا يصدقون ما يرونه ولسان حالهم يقول ما ذنبنا لكي نخرج ويُدمر منزلنا الذي يأوينا؟!.
نجاح والدة المعاقين تقول: "بناتي آيات (22 عاماً) تُعاني من مشاكل صحية في ساقيها ولا تستطيع المشي، وأريج (18 عاماً) تُعاني من الصرع، وحنين (16 عاماً) تُعاني من مشاكل صحية ولا تقوى على المشي، وبلال (30 عاماً) يُعاني الصرع أيضاً وجلال يُعاني من مشاكل صحية في ساقيه والطفلة رزان جمال نبهان (4 سنوات) تُعاني من مشاكل في ساقيها".
ولفتت نجاح، إلى أنّه قد تطوع مجموعة من شبان الحي للنبش بين الأنقاض للبحث عن أدوية لا يمكن شراؤها من الصيدلية لأنّها حساسة وتخص الجهاز العصبي، وأنّها تستلمها من مراكز خاصة وهي غير متوفرة دائماً، عدا عن أنّ الشبان أخذوا ينبشون بين الأنقاض علهم يجدوا الجهاز الطبي الخاص بساقي الطفلة رزان وكرسيين مدولبين لجلال وآيات، إضافةً إلى الكتب المدرسية وشنط الأطفال، لكنهم لم يجدوها لأنها كُسرت واحترقت بفعل الصواريخ التي سوت منزلهم بالأرض".
وتتساءل نجاح: "لا أعرف لماذا قصفوا بيتنا، لا أحد يضع لهم رادعاً، وهل الاتصال الهاتفي الذي أجروه مع قريبنا ليبلغنا أنهم سيقصفون المنزل، يمنحهم تصريحاً بتدمير منزل عائلة معظمهم مرضى؟".
عائلة نبهان هي اليوم مشتتة وكأن التاريخ يُعيد نفسه حينما قامت عصابات الموساد والهاجانا بقتل الفلسطينيين الذين يقعون تحت أيديهم ويتشرد البعض الآخر عام 1948.
ففي كل ساعة وكل يوم ما إنّ توجهت ستجد أنَّ في جعبة المواطنين بغزّة قصص موجعة ليرووها للعالم ولأولادهم حين يكبرون، ومع كل ذكرى تمر عليهم ستمتلئ صفحات الاحتلال الإجرامية بحقهم، فهو وقبل عام 48 لم يتوانى عن قتل الفلسطينيين لتُسجل بحقه آلاف القصص الدموية على مرئى ومسمع العالم المتفرج، ولسان حال الفلسطينيين يقول إلى متى سنظل نُقتل ونشرد من بيوتنا ونُعتقل ونُلاحق ممن سلبنا أرضنا، ممن اعتدى على كرامة الأمة يوما ومازال.