الذي يستمع إلى بعض القيادات الإسرائيلية التي تهدّد وتتوعّد بتدمير شامل، وبإعادة لبنان إلى «العصور الحجرية»، وإنهاء البرنامج النووي الإيراني، واستباحة سورية وقطاع غزة إذا لزم الأمر، والذي يراقب هذه القيادات وهي تتناوب على إطلاق التصريحات «الحربية» يعتقد «أنّنا» على أعتاب حرب لن تُبقي ولن تذر، وأن ما تبقّى على اندلاعها سوى بعض الأيام، أو بعض الأسابيع على أبعد التقديرات!
تترافق هذه التهديدات بسلسلة غير مسبوقة من التدريبات والمناورات التي أجرتها إسرائيل، وما زالت تواصلها، وتعلن أنها تقوم بها في إطار «محاكاة» عمليّاتية لحربٍ متعدّدة السّاحات، وعلى خمس جبهات، أو ستّ جبهات، إذا اضطرّت إلى ذلك، و»توحي» إسرائيل من خلال هذا الزخم الإعلامي الذي يرافق ويترافق مع هذه التدريبات والمناورات أن ثمة ما يشبه الإجماع على خوضها، وخصوصاً بين المستوى السياسي والمستوى العسكري، وبين أوساط المستوى العسكري نفسه «خلافاً» لما كان عليه الأمر في عدّة مراحل وفترات سابقة، بل ولا تتردّد إسرائيل في محاولة الإيماء بأنّ الإدارة الأميركية، وبعض الأوساط داخل وزارة «الدفاع» الأميركية باتت على قناعةٍ أكثر من أيّ وقتٍ مضى «بصحّة» التقديرات الإسرائيلية حول اقتراب إيران من الانتقال المباشر لصناعة السلاح الذرّي.
واللافت هنا هو أنّ إسرائيل هي التي تربط ما بين «انفرادها» بمهاجمة الأهداف النووية الإيرانية، والتي تنتشر على طول البلاد الإيرانية وعرضها، وبين خوض الحرب مع «حزب الله»، وربما سورية وقطاع غزة، وبعض القطاعات والفصائل العراقية، وصولاً إلى «الحوثيّين» في اليمن!
أمّا اللافت أكثر من هذا كلّه فهو أنّ هذه التهديدات قد جاءت في ظلّ جوّ إسرائيلي داخلي لم يعد «محتقناً» كما كان عليه قبل الآن، إذا أخذنا بعين الاعتبار ما كان قد وصله هذا الاحتقان، عندما وصلت الأمور إلى حواف «العصيان المدني»، وكان زخم «المعارضة» في الشارع الإسرائيلي في ذروته الأعلى.
أمّا إذا أضفنا إلى كلّ ذلك حالة الإقليم، والمصالحات التي تجري فيه سواء بين إيران والعربية السعودية، ومصالحات عودة سورية إلى الجامعة العربية، ومحاولات مصرية حثيثة لإعادة التهدئة ــ وربما طويلة الأمد نسبياً هذه المرّة ــ في قطاع غزة، وخمود الحرب في اليمن، ومحاولات جديدة وجادّة لإنهاء أزمة انتخاب الرئيس في لبنان، وسقوط المعارضة التركية في الانتخابات.
إذا ما أضفنا كلّ ذلك إلى الجوّ الإسرائيلي الداخلي، وإذا ما أضفنا «التغلغل» الصيني في منطقة الخليج العربي، ووصول العلاقات الإيرانية الروسية إلى مستويات أكبر وأعمق ممّا كانت عليه في أيّ وقتٍ مضى، فإن هذه التهديدات الإسرائيلية تبدو أكبر وأخطر بكثير من «مجرّد» اقتراب إيران من الحافّة العسكرية لتصنيع السلاح النووي.
لا تبدو «اللهجة» الأميركية ممتعضة بصورةٍ خاصّة من هذه التهديدات الإسرائيلية، ولا تبدو المواقف الأوروبية نفسها على نفس الأنساق السابقة في التعبير عن معارضة أوروبا لإيصال التوتّر في الإقليم إلى هذه الدرجة، بل يمكن القول إن ثمة ما هو قريب في كل هذا الأمر، بل وثمة ما يُضفي على تلك التهديدات أهمية خاصة.
هنا علينا ــ كما أرى ــ أن نعود إلى الوضع الدولي لمحاولة قراءة خارطة الصراع في الإقليم من وجهة النظر «الغربية».
لنبدأ بالسؤال الآتي:
هل غيّرت الولايات المتحدة موقفها، ولم تعد عند نفس الدرجة من «معارضة» التوجُّهات الإسرائيلية الخاصة بالملف النووي الإيراني بعد أن دخلت الصين بقوة على خطّ الصراع في الإقليم؟ وبعد أن لمست الولايات المتحدة أنّ التغلغل الصيني والروسي قد وصل إلى أقصى حدود الخطر؟ وبعد أن انخرط الإقليم كلّه في سلسلة مصالحات ليست مطلقاً في مصلحة الولايات المتحدة، ولا في مصلحة إسرائيل، ولا حتى في مصلحة أوروبا الغربية نفسها؟
أقصد هل باتت الولايات المتحدة تخشى من ضياع الإقليم ومن إفلاته من بين أصابعها، بحيث لم تعد تخشى من أن تكون الحرب الإقليمية الطاحنة والشاملة على حساب أولويتها المطلقة، أو التي كانت مطلقة في أوكرانيا وضد الدولة الروسية، بل وربما تكون ــ أو أصبحت ــ «ضرورية» لأن حسم هذه الحرب في مصلحة الولايات المتحدة و»الغرب» وإسرائيل قد يساعدها في الحرب الروسية الأوكرانية، وقد يؤدّي إلى زعزعة مكانة روسيا والصين ما سيؤدّي إلى إحداث فرقٍ كبير في نتائج تلك الحرب هناك؟
إذا صحّت هذه القراءة يُصبح الأمر في منتهى الجدّية، وفي منتهى الخطورة، أيضاً.
هنا نُصبح أمام وقائع جديدة، ومعطيات جديدة، بل وأمام حقائق جديدة كلّياً.
هنا لا تعود الحرب الإقليمية الطاحنة والشاملة، وربما التدميرية، أيضاً، مجرّد هروب إسرائيلي إلى الأمام، وليس مجرّد محاولة لتصدير أزمتها الداخلية، ويتحوّل الأمر برمّته إلى وجهة أخرى جديدة.
عندما نُراقب الاستماتة «الغربية» في الحرب الأوكرانية، وعندما نرى أنّ صوت ألمانيا أصبح مرتفعاً إلى درجةٍ غير معهودة، وكذلك أنّ فرنسا نفسها انخفض صوتها كثيراً عما كان عليه قبل عدّة شهور فقط، وعندما نلاحظ أنّ «الحياد» الإسرائيلي في تلك الحرب لم يعد كما كان عليه، وأن إسرائيل لم تعد تتحرّج من تخلّيها عن هذا الحياد.. عندما نرى كل ذلك، ونرى كلّ هذا التوتير الأميركي، والاستفزازات الأميركية للصين في المحيطين الهندي والهادئ فإنّ ثمة ما يشي بأنّ «الغرب» بات يعتبر أنّ كلّ ما يجري في خارطة الصراع الدولي يتحوّل يوماً بعد يومٍ إلى الطابع المصيري، الذي يتعلّق بكامل المصالح الإستراتيجية «الغربية»، وبمستقبل المكانة والدور «الغربي» في معادلة هذا الصراع.
لا يمكن الجزم بصحّة، أو لنقل دقّة هذه القراءة منذ الآن، لكنّ هناك من المعطيات ما يكفي بأنّ استبعاد مثل هذه القراءة سيعتبر بكلّ المقاييس خطأً فادحاً، وخطيراً إلى أبعد حدود الخطر.
ليس سهلاً، ولا حتى على الولايات المتحدة نفسها الذهاب باتجاه هذا الخيار، وهو ليس سهلاً على الإطلاق بالنسبة لأوروبا لأنه محفوف بمخاطر كبيرة على مصالحها الإستراتيجية المباشرة أكثر مما هو عليه الأمر بالنسبة للمصالح المباشرة للولايات المتحدة، والأهمّ من كلّ ذلك، وقبل كلّ ذلك فإنّ هذا الخيار سيكون هو الأصعب على إسرائيل، والأمر بكلّ بساطة بالنسبة لدولة الاحتلال ينطوي على أخطارٍ من نوعٍ آخر قد تصل إلى مستويات الخطر الوجودي نفسه.
ومع ذلك كلّه فإنّ إفلات الإقليم من السطوة الأميركية، واصطفاف هذا الإقليم خارج النسق الأميركي، ومن دون أيّ دورٍ خاص لإسرائيل، بل وربما على حساب أيّ دور خاص لها قد يؤدّي إلى حربٍ كهذه، وقد نكون للمرّة الأولى أمام توافقٍ أميركي إسرائيلي عليها.