مع بدء الإجازة الصيفية، ومنذ اللحظات الأولى لآخر اختبار مدرسي حتى خرج الطلاب إلى الشوارع فرحين بانتهاء عبء القيود الدراسية والجلوس في المنزل مع آبائهم للدراسة، ولعل من بين المظاهر والسلوكيات التي قام بها بعض الطلاب هي تمزيق الكتب والقرطاسيات في الشوارع وهذا ما قوبل باستهجان وغضب من المواطنين، الذين رأوا أنَّ هذا التصرف غير لائق وأنَّ الأطفال لا يحترمون التعليم، ورآى البعض الآخر أنّه تفريغ نفسي عبَّر فيه الأطفال عن حريتهم بانتهاء السنة الدراسية.
وليت الأمر توقف عند هذا الجانب، بل لا نكاد نمر في شارع من شوارع القطاع حتى نجد عشرات الأطفال يلعبون على الطرقات وبين السيارات غير مدركين بالمخاطر التي تلحق بهم من وراء ذلك اللعب.
يُذكر أنَّ قطاع غزّة يُعاني ظروفاً خاصة، وقلة فرص العمل والبطالة المتفشية بين المواطنين تحرمهم من تسجيل أبنائهم في نوادٍ ومراكز لتعليمهم والترفيه عنهم طيلة فترة الإجازة الصيفية، لذا يجد هؤلاء الأطفال من الشوارع والمتنزهات العامة مكاناً للتفريغ النفسي والبدني والذي لا يُكلفهم ولا يُكلف آباءهم المال، لكِن الملفت أنَّ هؤلاء الأطفال أثناء اللعب يتلفظون مع بعضهم بألفاظ خارجة عن الأدب والأخلاق، بالإضافة إلى أنّه كثيراً ما نرى مجموعة من الأطفال والصبية يتنازعون فيما بينهم ويصل الأمر فيما بينهم لحد الاقتتال ورمي الحجارة على بعضهم والتلفظ ونعت بعضهم بأبشع الصفات.
مراسلة وكالة "خبر" التقت الأخصائية النفسية، نورا سالم، وسألتها عن تلك المظاهر ومدى تأثيرها وبُعدها الاجتماعي والنفسي على الأطفال ودور العائلة في ذلك، فأجابت: "في البداية التجمعات واللعب بالطرق العامة والشوارع الفرعية ليس جديداً على مجتمعنا الفلسطيني، منذ أجيال سابقة وهذه العادات والمظاهر موجودة، مع اختلاف الحقبات الزمنية طبعاً، وظروف كل زمن، ولكِن دائماً نقول إنَّ كل شيء يفوق الحد يؤثر سلباً على الأفراد والمجتمع".
وأضافت: "عدة عوامل يُمكن التركيز عليها في سلوكيات الأطفال بغزّة، أولها أنّهم تعرضوا لضغط نفسي وعصبي جراء العدوان على البيوت، وقد عايش الأطفال هذه الظروف مثل الكبار، بالإضافة إلى أنّهم تأثروا أكثر منهم، والضغط النفسي الثاني وهو المتمثل في الدراسة والامتحانات وضغط العائلة عليهم للنجاح، والتأثير الآخر أنّ غزة تقل فيها الأماكن المخصصة للعبهم بشكل مجاني، فلا يجدون ملجأ للعب واللهو سوى في الشارع أو المتنزه العام".
وأوضحت سالم، أنّه ورغم تلك الظروف التي عايشها الأطفال بغزّة، إلا أنّه ينقصهم المراقبة والمتابعة من قبل الأب والأم وبالتحديد من الأمهات اللواتي يتركن أطفالهن في الشوارع لساعات طويلة تمتد لساعات الليل أحياناً بحجة أنّهم في إجازة ويلهون مع أصدقائهم وهو ما يُشكل خطراً عليهم جسمانياً وأخلاقياً. وقالت: "في العادة لا تعلم الأم مع مَّن يلهو طفلها أو طفلتها، ربما يلهون مع أطفال أو صبية غير سويين نفسياً أو أخلاقياً، أو يتعلمون منهم سلوكيات غريبة، وما يُقلق فعلاً أنّ تلك الأمهات ترى التغير على أولادها من حيث اكتسابهم للألفاظ والسلوكيات التي أخذوها من الشوارع وتقول لنفسها (بيكبروا وبيفهموا الصح من الغلط، احنا كنا متلهم نلعب في الشارع وهينا ما فينا اشي) وهذا الخطر، فإذا لم تُدرك العائلة وتتفهم أنَّ الإجازة الصيفية ليست للعب طيلة الوقت والخروج من المنزل لساعات طويلة، وهو ما سيلقي عليهم بتأثيرات سلبية كثيرة".
وذكرت سالم بعض النقاط التي يُمكن أنّ تستفيد منها العائلة لحماية أطفالها أولاً والترويح عنهم، بالإضافة إلى أنهّم يتعلمون بعض الأشياء التي تفيدهم وهي كالتالي:
أولاً: شراء بعض الألعاب أو الألوان والكراسات لأطفالهم وتركهم ليرسموا ويلونوا، لأنّه بالرسم يُمكن لهم أنّ يفرغوا عن أنفسهم ويقضوا أوقاتاً جميلة.
ثانياً: تخصيص الأم والأب بعضاً من وقتهم للعب مع أطفالهم ومشاهدة بعض البرامج المفيدة لهم عبر التلفاز، أو سرد قصص ممتعة لهم.
ثالثاً: "تعليمهم وتحفيظهم القرآن الكريم، وإذا أتيح لهم الأمر تسجيلهم في حلقات تحفيظ القرآن بالمسجد ومتابعتهم في المنزل.
رابعاً: "الخروج معهم للمتنزهات العامة ومتابعتهم أثناء اللعب.
خامساً: تخصيص الوقت لسامعهم وسماع أحاسيسهم ومشاكلهم وأمنياتهم.
سادساً: "إذا أتيح لهم مادياً تسجيلهم بمراكز لتعليمهم المواد التعليمية التي كانوا يستصعبون دراستها خلال العام الدراسي السابق، وتقويتهم فيها وإشغالهم بشيء يفيدهم.
سابعاً: "حين يصدر عن أطفالهم أيّ سلوك سيئ أو لفظ قبيح، عدم معاقبته بالضرب فوراً، بل تنبيهه وتوعيته بما بدر منه، وفي حال تكرارها يُمكن معاقبته بطريقة بعيدة عن الضرب، وعلي سبيل المثال حرمانه من الأشياء التي يُحبها أو منعه من اللعب والخروج للتنزه، لأنَّ الضرب في بعض الأوقات يولد عند الأطفال العنف والعناد ويظل متمسكاً بفعله ولفظه السيئ أكثر.
على الجانب الآخر كان لابد من مقابلة ذوي الأطفال لمعرفة كيف يقضي أطفالهم اوقاتهم في الإجازة السنوية، فقالت تغريد: "عادةً لا أسمح لأطفالي باللعب في الشارع مع الأطفال الىخرين، لديهم غرفة خاصة بالألعاب وحين يملوا منها أسمح لهم بمشاهدة التلفاز وحين أخرج لزيارة العائلة أو قضاء وقت خارج المنزل يكونوا معي، ماذا عسانا نفعل لهم أكثر من ذلك، فقطاع غزة أماكنه الترفيهية تحتاج للمال الكثير والأطفال يطلبون كثيراً ولا يفهمون أنّنا لا نملك المال لكي نُشبع رغباتهم باللعب، كما أنَّ المتنزهات العامة يوجد فيها بعض الألعاب التي تُمكنهم من اللعب فيها، وفي ذات الوقت لا أسمح لهم باللعب في المتنزهات وأنا غير موجودة معهم رغم أنني أقطن بجوار متنزه عام، لأنَّ تلك الأماكن تضم أشخاصاً ليسوا بمثل تربية أبنائي ولا تفكيرهم ولا ثقافتهم، فأخشى أنّ يكتسبوا بعض السلوكيات السيئة".
أما "اعتماد" فلا توافق تغريد الرأي، حيث ترى أنّه إذا لم يتم ترك الطفل على راحته من غير تقييده، سيبقى انطوائياً، وقالت: "أنا لديَّ ثلاث أبناء أكبرهم يبلغ من العمر عشر سنوات وأصغرهم سبع سنوات، يلعبون في الشارع أمام المنزل وأحياناً يذهبون للعب في المتنزه القريب من بيتنا، يلهون ساعات ومن ثم يعودون للمنزل، أنا أراقبهم وأراقب سلوكياتهم وأصوبها في بعض الأحيان، ولكن لا أقيد أولادي، وخصوصاً أنَّ منزلي صغير جداً فهو لا يتجاوز الثمانين متراً مربعاً، وصغر حجمه يخلق نوعاً من التقييد النفسي، لأنَّ الأطفال يحتاجون للتفريغ عن أنفسهم في أماكن واسعة".
"عبد الرؤوف" يجلس أمام طفليه يُراقبهما من بعيد وهما يلهوان على إحدى المراجيح في المتنزه، ويقول لمراسلة "خبر": "في العادة لا أخرج مع أطفالي للتنزه، وذلك لأنّني أكون في عملي حتى ساعات المساء فأعود للمنزل وهم نائمين، ولا أجد غير يوم الجمعة وهو يوم عطلتي للجلوس معهم بعد صلاة العصر، وبعد أنّ أكون قد استيقظت من نومي، وها أنا اليوم معهم هنا وذلك لأنَّ طفلي تعرض لحادث غير بسيط قبل ذلك، حينما جاء للمتنزه هو وأخيه وحدهما، وقد تعرض له أحد الصبية وطلب منه النزول عن الأرجوحة لكن ابني رفض ذلك، فضربه ضرباً مبرحاً، وأصيب على إثرها بكسر خفيف في اليد اليمنى، ومن حينها لا أسمح لهم بالخروج من المنزل إلا برفقتي أو رفقة والدتهم، لكي لا يتكرر ما حدث".
وقدم الأب نصيحة لجميع الآباء والأمهات، جاء فيها: "أتمنى أنّ يتقي الآباء الله في أبنائهم، بعضهم لا يكترث بما يفعله أولادهم، ولا يُراقبونهم، وأحياناً كثيرة تجد أطفالهم لساعات طويلة بالشارع حتى ساعات المساء، وأقول لهم لا تنتظروا حدوث كارثة مع أطفالكم لكي تنتبهوا لهم، وتندموا يوم لا ينفع الندم".