يسود الوضع الفلسطيني حالة من عدم اليقين، تظهر لدى الكثير من الأفراد وكأنها شيزوفرينيا (انفصام الشخصية)، وهي بدأت منذ سنوات طويلة، فالوضع القديم مع أنه استنفد أغراضه، وفشل فشلًا ذريعًا لم يرحل بعد، والجديد لم يولد بعد، على الرغم من الإرهاصات الكثيرة، ولكن ملامح المرض أصبحت أكثر وضوحًا، بل استفحلت وصارت حالة مرضية كاملة، وهي ناجمة عن مأزق عميق، بل انهيار وهزيمة النظام السياسي برمته، من دون وضوح ما البديل والرؤية المناسبة للمرحلة الجديدة، وما النظام الذي سيحل محله؟
هل سيحل محله نظام فلسطيني جديد متطور يستوعب الدروس والأخطاء السابقة، وقادر على حشد طاقات الشعب الفلسطيني وكفاءاته أينما وجدت، أم نظام خاضع للسيادة الإسرائيلية، يضم معازل فلسطينية آهلة بالسكان منفصلة عن بعضها البعض، يمكن أن تأخذ شكل سلطات أو إدارات محلية منفصلة عن بعضها البعض، أو تجمعها سلطة واحدة، أو تتكون من خليط لأدوار وأطراف فلسطينية وعربية إقليمية ودولية وإسرائيلية؟
لا ينحصر المأزق في القيادة الرسمية وفصائل الثورة الفلسطينية التي وصلت معظمها إلى نهاية الطريق، لدرجة اعتبار أن الهزيمة الكاملة لحقت بها وهي تستوجب الانصياع الكامل للواقع، بل ظهرت الأعراض أيضًا على فصائل العمل السياسي ذات البعد الديني، وإن بأشكال خاصة تناسب وضعها وخصائصها، من خلال اعتماد خيار الانتصار الحاسم والكامل بضربة واحدة ستحدث قريبًا، فهي تراهن على الغيبيات، وتبالغ هذه الفصائل كثيرًا في قواها الذاتية وقوة محور المقاومة ووحدة الساحات، وتقلل كثيرًا من قوة العدو وتحالفاته، وتصطدم بالواقع، وتضطر إلى التعامل معه، فصخرة الواقع قوية وعنيدة. نعم، هناك متغيرات مهمة، ولكن ميزان القوى لا يزال مختلًا لصالح العدو وحلفائه.
فشل الإستراتيجيات المعتمدة
يكمن جذر المأزق في فشل القيادة الرسمية في تحقيق برنامجها وإعادة إنتاجه باستمرار بشروط أسوأ، وعدم اعتماد برنامج جديد، بل ما تحقق على العكس من ذلك تمامًا.
أما الفصائل ذات البعد الديني، فاكتفت بطرح شعار التحرير واعتماد خيار المقاومة، وهذا مهم، ولكنه لا يكفي، فالمقاومة ليست صنمًا نعبده، وإنما وسيلة ضمن وسائل وأشكال عديدة، تهدف إلى تحقيق الأهداف الممكنة في كل مرحلة، وصولًا إلى تحقيق الأهداف والأحلام الكبيرة.
أما أهمها حركة حماس، فهي لم تطرح بديلًا متكاملًا، بل قررت الانخراط في السلطة ومنظمة التحرير، من دون شروط مثل اعتماد برنامج وطني، بل كانت تتعرض للمطالبة بالاستجابة للشروط الظالمة، وتذبذبت بين خيار الانتصار الحاسم وبين التعاطي أحيانًا مع برنامج القيادة بوصفه برنامج الحد الأدنى، إلى حد تخوين القيادة حينًا، والمطالبة بإسقاطها بالانتخابات أو غيرها في أحيان أخرى، وتفويضها بالتفاوض باسم الشعب الفلسطيني واحترام الاتفاقات ورفض الالتزام بها في أحيان ثالثة.
كما لم تضع "حماس" التخلي عن أوسلو والتزاماته شرطًا للعمل المشترك، ووصلت إلى حد القبول استجابة لنصائح تحالفاتها، بأن يكون الرئيس محمود عباس مرشحًا توافقيًا في الانتخابات التي كانت مقررة في العام 2021، ضمن تفاهمات إسطنبول، والتعامل مع معادلة هدوء مقابل تسهيلات، وتخفيف الحصار؛ ما يعزز الانفصال ويقوي كيانًا منفصلًا في غزة تحت السيادة الإسرائيلية، إضافة إلى عدم تجاهل أنها تقوم بمراكمة القوة، والمشاركة ودعم المقاومة في الضفة.
تناقضات
المستقبل القريب غامض، أما المستقبل على المديين المتوسط والبعيد فواعد، والحالة المذكورة تصيب الكثير بحالة من الشيزوفرينيا لا تقتصر على القيادات والفصائل القديمة، بل طالت النخبة والحراكات الجديدة، وأخذت تظهر في مطالبة أشخاص وقوى بالشيء ونقيضه، بالتغيير والإطاحة، ومطالبة القيادة المطلوب تنحيتها بإجراء انتخابات حتى يمكن إزاحتها من خلالها.
كما طالب مثقفون، الكثير منهم قضى عمره في محاربة الرجعية العربية، واعتبارها جزءًا من معسكر الأعداء، ودان حربها في اليمن ومحاربة كل ثورات التغيير، والانتقال إلى الإشادة بالموقف العربي المتماسك والقيادة العربية، ومطالبتها بجمع الصف العربي، وباتت محط آمال العرب في ظل القيادة الشابة لمحمد بن سلمان، وكأنه جمال عبد الناصر، ومن أجل ذلك تبيض تاريخ السعودية إزاء القضية الفلسطينية والثقة في مستقبلها لمجرد وضعها لشروط لتحقيق التطبيع الكامل مع إسرائيل، مقابل شروط معظمها تتعلق بمصالح ومطالب سعودية وليست تتعلق بالقضية الفلسطينية.
ما حدث مهم وهو أن محمد بن سلمان قرر لمصلحته، ومصلحة بلاده، اللعب على التناقضات بين المعسكرين الشرقي والغربي، بعد أن خاب أمله من الصدمات والإهانات التي تعرض لها من حليفه التاريخي الأميركي في مرحلة زعامة الحزبين الجمهوري (دونالد ترامب) والديمقراطي (باراك أوباما وجو بايدن).
وهذا الأمر بالنسبة إلى بعض المثقفين؛ لأن إيران تصالحت مع السعودية من دون التوقف أمام أن المسألة برمتها لا تزال في البداية، وقد تكون تكتيكية، والبعض الآخر يريد بالإشادة بابن سلمان تجربة جديدة تهدف إلى إحداث التأثير بعد خواء الحيز السياسي الرسمي وعجزه وتخاذله، ولا يمكن سد الفراغ بأن يهبط المثقف حارس الرواية والمبادئ والأخلاق والقيم والهوية والثقافة الوطنية والإستراتيجية للقيام بدور سياسي يخضع لموازين القوى، من دون امتلاك الأدوات اللازمة لإحداث التغيير.
وهناك من يتعامل مع روسيا التي لا ننكر صداقتها، وكأنها أيام الاتحاد السوفييتي التي انطلق بصداقته مع الشعوب من مبادئ وأيديولوجيا وليس من مصالح أولًا وأساسًا، ومع الصين وكأنها أيام ماوتسي تونغ، متناسيًا أن العامل المحدد في العلاقات الدولية في المرحلة الراهنة هو المصلحة وليس المبادئ والأخلاق والقيم.
وهناك من يطالب بحل السلطة؛ لأن 63% من الشعب يرونها عبئًا على القضية والشعب من دون طرح بديل أو بناء بديل؛ لأن حل السلطة من دون بديل قد يحقق هدف الحكومة الكهانية التي لا تريد الكثير من مكوناتها أي تعبير عن هوية فلسطينية وطنية واحدة.
قد نكون بحاجة إلى مرحلة انتقالية يتم فيها محاولة تغيير السلطة، وإذا أراد الاحتلال حلها نتيجة ذلك، ولتبنى السلطة الوطنية في مواجهة الاحتلال، وليتحمل المسؤولية كاملة عن حل السلطة أو انهيارها، ومن يريد حل السلطة حتى يفتح حلها طريق خيار الدولة الواحدة الديمقراطية الذي سيبقى مغلقًا ما دامت السلطة قائمة، وكأن الأبواب للدولة الديمقراطية مفتوحة، ولا ينقصها سوى حل السلطة. وفي هذا السياق، يشير الواقع بأصابعه العشرة إلى قيام دولة واحدة استعمارية استيطانية عنصرية احتلالية yحلالية تحكم الفلسطينيين بأنظمة مختلفة، تمهيدًا لإقامة "إسرائيل الكبرى"، التي يتطلب قيامها تهجير المزيد من الفلسطينيين.
وهناك من يحذر من انهيار السلطة لكي لا يريح الاحتلال بحلها، مع أنه حوّلها بسياساته المتخاذلة إلى كيان وظيفي يخدم الاحتلال، ويطالب الإدارة الأميركية بإطلاق مبادرة سياسية "تجبر الطرفين" بالوفاء بالتزاماتهما للحفاظ على حل الدولتين، وكأن هذا الحل موجود، وهو لم يكن كذلك في أي وقت اعتمادًا على التنازلات والمفاوضات.
وهناك من يطالب القيادة، وهو عضو لجنة تنفيذية في المنظمة، أو عضو لجنة مركزية بفتح، أو عضو في كلتيهما، بأن تفعل كذا وكذا وكذا، وهو يعرف أنها هيئات فرغت من دورها، وهو يقبل أن يبقى فيها، فلذلك عليه أن يصمت أو يستقيل أفضل.
موضة التحليل السياسي
لقد أصبحت القياديون - لأنهم لا تقودون - محللين سياسيين، والقيادة بدلًا من القيام بواجبها بحماية المواطنين تطلب من الشعب بشكل عام والأفراد بشكل خاص بحماية أنفسهم، وهي تكتفي بالتصرف بأنها لا حول ولا قوة لها، وتطلب الحماية الدولية والتعامل معها مثل الحيوانات.
مثقفون وأكاديميون خبراء وليسوا مناضلين
عودة إلى المثقفين والأكاديميين الذين أصبحوا بقدرة قادر بأغلبيتهم خبراء وليسوا مثقفين عضويين وطنيين مناضلين، وأن دورهم تقديم الاستشارات عندما تطلب منهم، وغالبًا يقدمون الاستشارات التي يرغب المسؤول المستشير في سماعها.
أما الكفاح الوطني من أجل التغيير البنيوي الداخلي، الذي من دونه لا يمكن إحباط المخططات التصفوية للقضية بمختلف أبعادها، والذي يتبوأ فيه المثقفون مكانة مهمة، فلا علاقة لهم به، كما يتوجب عليهم القيام به، ولا علاقة لهم بالسير قدمًا نحو تحقيق الأهداف والحقوق الوطنية والديمقراطية، وبعضهم ممن لا يعمل لدى السلطة يعمل في الخليج وغيرها، ويلعن ويعارض من يريد.
وهناك من يقول إن المرحلة ليست مرحلة حلول، وهذا صحيح، ولكنه يمتنع عن وضع أهداف وبرامج (حتى يبقى في "الجانب الآمن"" "Save Side" ولا يخطئ")، التي من دونها لا يمكن وضع الخطط والتراكم على طريق تحقيقها، ومن دون أخطاء لا توجد نجاحات.
رهان على الاحتلال
هناك من ذهب بعيدًا واستعد لكي ينخرط في اللعبة الإسرائيلية بالكامل، والرهان على هذا الحزب أو ذاك، وعلى تلك الحكومة أو تلك، مهما كان عداؤها وتطرفها؛ أي أن يبقى في ذيلها، وبحجة سخيفة أنه من دون ذلك لا يمكن وفق زعمه إحداث تأثير، ولا ندري عن أي تأثير يجري الحديث ولصالح من.
وهناك من يريد المغامرة والقفز عن الواقع على اعتبار إسرائيل أوهن من خيوط العنكبوت، وستزول خلال أعوام قليلة جراء تناقضاتها الداخلية أو الخارجية أو كلتيهما، وهو يتجاهل أن زوالها الحتمي ممكن أن يتحقق بعد عشر سنوات أو عشرين أو خمسين أو مائة سنة ويتوقف على أشياء كثيرة منها ما سيفعله أو لا يفعله الفلسطينيون وحلفاؤهم.
الانتخابات في الوضع الحالي ليست المدخل لتجاوز المأزق
هناك من يقترح حلًا بإجراء الانتخابات بوصفه مدخلًا لتجاوز المأزق، ويتجاهل أن الانتخابات جزء من النظام الديمقراطي وليست الديمقراطية، وأنها وسيلة وليست غاية، وأن الاحتلال والانقسام يحولان دون إجراء انتخابات حرة ونزيهة تحترم نتائجها، ولذلك هناك أهمية كبرى من أجل الوصول إلى إجراء الانتخابات أن تكون هناك قوة ضغط سياسي جماهيري قوية جدًا تجبر الحركات السياسية على الانصياع لإرادة الشعب ومصلحته، وهذا لن يتحقق بمجرد ترديد كلمة انتخابات، وإنما بالاتفاق على برنامج سياسي نضالي، وعلى توحيد السلطتين، وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لإيجاد إطار موحد تجري الانتخابات في إطاره، ولو عن طريق تجاوز الفئة المتحكمة التي لا تريد وحدة وطنية تقيدها، لتتجسد بعد ذلك المنافسة والتعددية في مرحلة التحرر الوطني والإطار الوطني الموحد.
الداعي إلى الانتخابات بوصفها عصا سحرية يتجاهل كل ذلك، ويقول فلتجر الانتخابات ويحكم من يفوز، ويتجاهل أن من فاز في السابق لم يمكّنه الاحتلال وأطراف محلية وخارجية من الحكم، ولن يمكن من الحكم للأسباب نفسها إذا فاز مرة أخرى هو أو غيره من المقاومين ما لم يعترف بالرباعية، وما أدراك ما الرباعية، مع أنها صيغة ماتت في أتون الحرب الأوكرانية، ولكنها تلاحقنا من قبرها.
إذا استمر الانقسام والنزاع بين سلطتين، والخلاف البرامجي، والتحالفات الإقليمية والدولية لكل طرف، لن تكون هناك انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها، وعندما يغلب حمار دعاة الانتخابات بوصفها عصا سحرية، يقولون لك يمكن إجراء انتخابات إلكترونية، وكأن المسألة فنية وليست سياسية، وكأن الفلسطينيين يقفون بالطوابير مطالبين بإجراء الانتخابات، ويصرون كذلك على إجراء الانتخابات للمجلس الوطني في كل مكان، قافزين عن العقبات الضخمة التي تحول دون إجرائها، خصوصًا في الداخل والأردن اللذين يضمان معظم الفلسطينيين خارج الضفة والقطاع، وبدلًا من البحث في كيفية حل العقبات الحقيقية لإجراء الانتخابات يطنبون بالحديث عن مزايا الانتخابات، وكأن الخلاف على الانتخابات وليس على شروطها وإمكانية تحقيقها.
يقفز هؤلاء بخفة عن أن المجموعة المتحكمة لا تريد انتخابات إلا مضمونة النتائج، وكل المؤشرات تدل أنها ستخسر، كما أن بقية الفصائل لا تريد انتخابات، حتى "حماس"؛ لأنها لن تحقق لها ما حققته في الانتخابات السابقة، وإذا فازت لن تمكن من الحكم، وإذا خسرت ستطالب بالتخلي عن سيطرتها على قطاع غزة، وهي توافق على إجرائها لفظيًا لتيقنها أن خصمها سيتكفل بمنع إجرائها، كما أنها ستجرى إن جرت في ظل الانقسام، ولن تمس بالسلطتين المتنازعتين. أما الفصائل والقوائم الأخرى فمعظمها لن يتجاوز نسبة الحسم في أي انتخابات قادمة كما جاء في الانتخابات السابقة، وكما تشير الاستطلاعات، لذا لن نصدق أنها تريد انتخابات.
رهانات مختلفة
هناك من يطالب بالبدء بالمنظمة، ويطالب من يهيمن عليها من تمكينه من إزاحته، وهناك من يطالب مثلي بحل الرزمة الشاملة، والكثير من أصحاب هذا الحل يراهن على الفصائل والقوى والشخصيات المعارضة، التي مرتاحة للوضع الحالي، وإذا توفرت إرادتها للتحرك لن تنتظر دعوة من أحد، خصوصًا إذا لم يكن يمثل قوة فارقة، وهذا يذكر بالجهود المستمرة التي بذلت خلال عشرات السنين لإعادة الاعتبار لليسار وتوحيده أو لتشكيل تيار ثالث ولم تحصد سوى الريح.
يجب أن ينصب البحث على أسباب تعثر المحاولات والمبادرات والحراكات التي بدأت من سنوات طويلة، أو حديثة العهد، ولم تتجاوز بتأثيرها نسبة الحسم، وهنا لا أستثني أحدًا، وهذا بحاجة إلى بحث علمي وحوار سياسي عميق.
لماذا لم يظهر القطب الثالث الذي يكسر الاستقطاب الثنائي الحاد، ويحدث التوازن المطلوب في المعادلة السياسية الفلسطينية، مع أن أكثر من 40% من الشعب وفق استطلاعات مهنية ترى أن حركتي فتح وحماس غير جديرتين بقيادة الشعب الفلسطيني؟ وقد يكون العمل من أجله مضيعة للوقت.
وهناك من يراهن على المقاومة الفردية وعرين الأسود والكتائب المقاوِمة والوحدة الميدانية، خصوصًا في جنين ونابلس، ناسيًا أن هذه الظاهرة مهمة جدًا وتطرح أملًا، خصوصًا بعد معركة جنين الأخيرة وعملية "عيلي"، ولكنها ليست وحدها بديلًا ولا حلًا، بل أن فصائل المقاومة ساهمت في تضخيم دورها وأهميتها، والتغاضي عن أخطائها ونواقصها لتبرير عدم قدرتها على القيام بالدور المنتظر منها، وهو قيادتها وتنظيمها، وتسليحها بالوعي وبالخبرات المستفادة، والأسلحة والتنظيم والبرنامج والجبهة الوطنية، وأهمية عدم التسرع في العلنية والظواهر الاستعراضية، والكف عن عدم أخذ الخيطة والحذر عند استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية.