قبل أكثر من عشرين سنة، شنت إسرائيل حربا شاملة ومفتوحة على الشعب الفلسطيني، شملت كل مدن وقرى ومخيمات فلسطين، وذلك ضمن العملية التي سمتها في ذلك الوقت «السور الواقي»، واستهدفت عمليا العودة عن كل ما تحقق بفضل الانتفاضة الأولى، ضمن اتفاق أوسلو، فهي دهست أوسلو، وأسقطته عمليا، باجتياحها ما كان يصنف كمناطق أ التي تعود فيها السيطرة الأمنية والمدنية للسلطة الفلسطينية، وقد واجه الشعب الفلسطيني إعادة احتلال وطنه بكل شجاعة، فيما قاد المواجهة على الجانب الفلسطيني الرئيس الشهيد الراحل ياسر عرفات من مقره في المقاطعة، حيث انتقل من غزة إلى رام الله قبل ذلك، لأنه أدرك أن معركة كسر العظم الحقيقية مع الاحتلال الإسرائيلي إنما هي على أرض الضفة الغربية والقدس طبعا، وخلال أكثر من عامين قاوم الشعب الفلسطيني إعادة الاحتلال ببسالته المعهودة، من جنين إلى رفح، حيث أطلق الرئيس الشهيد لقب جنينغراد على جنين ورفحغراد على رفح، مستذكراً بطولات الشعب السوفياتي في لينينغراد التي كانت مفتاح دحر الاحتلال النازي.
والحقيقة أن لجنين تاريخا حافلا في التصدي للاحتلال، وفي اجتراح البطولات على طريق المقاومة، منذ نحو مئة عام، حين شهدت أنصع صفحات المقاومة يقودها عز الدين القسام، في جنين في مواجهة الانتداب البريطاني وعصابات الاحتلال الصهيونية، التي كانت عبارة عن ميلشيات مسلحة، تمارس جرائم الحرب بهدف تهجير السكان الفلسطينيين، وقد زاد مخيم جنين، حيث يسكنه نحو خمسة عشر ألفا من التواقين للعودة إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها عام 1948، مدينة جنين إصرارا وعزما على المقاومة، حتى باتت جنين ومخيمها عنوانا ورمزا للبطولة والشجاعة في مقاومة الاحتلال.
أما المحتل الإسرائيلي فقد انتبه مبكرا، رغم كل ما لديه من قوة عسكرية، إلى عجزه عن مواجهة الشعب الفلسطيني واحدا موحدا، لذا لجأ وبعد عملية السور الواقي، وربما كأحد نتائجها، إلى الإقدام على أمرين، أولهما إقامة جدار الفصل العنصري، حتى يحتمي وراء الجدار، بجيشه ودولته، والثاني كان الانسحاب من جانب واحد من قطاع غزة، انسحابا ليس كاملا أو تاما، فهو خرج بجيشه ومستوطنيه من مدنها وقراها ومخيماتها، أي من داخل حدود القطاع، لكنه بقي يحاصره من خارجه، بهدف فصله عن باقي الوطن الفلسطيني، وهذا ما فعله قبل أيام، أي حين أدرك عجزه عن مواجهة الشعب الفلسطيني موحدا، فسارع إلى الاستفراد بجنين، معتبرها رأس حربة المقاومة، وذلك بعد أن مني بالهزائم المتتالية من خلال مواجهات وحدة الساحات السابقة، والتي عبر عنها مفكروه ومراقبوه العسكريون الإستراتيجيون حين قالوا وما زالوا يقولون إن إسرائيل فقدت القدرة على الردع.
في حقيقة الأمر، أن التخطيط للعملية العسكرية التي لم تشهد مثلها في قسوتها المدن الفلسطينية منذ عشرين عاما، أي منذ السور الواقي، بدأ منذ عام، كما أعلنت مصادر الاحتلال نفسه، أي في سياق العملية العسكرية المستمرة منذ عام ونصف، والتي تسمى «كاسر الأمواج»، وبتقديرنا فإن إسرائيل كانت تعلم أن اجتياح جنين عبر عملية عسكرية واسعة، بهدف تفتيش كل بيوت مخيم ومدينة جنين، بهدف «تنظيفهما» من المقاومة والمقاومين، يعني الدخول في معركة سيسقط فيها من جنود الجيش الإسرائيلي الكثيرون، أي أن دخول عشر الدبابير لا بد أن يعني الخروج بجروح بالغة، ولهذا فإن الهدف العسكري، يبدو أنه بعيد المنال، وإنجازه يكلف إسرائيل غاليا، لذا فأغلب الظن أن إسرائيل اكتفت بتحقيق الهدف السياسي.
وقد اختارت إسرائيل التوقيت المناسب، من حيث الزمن، أي ما بعد رمضان والأعياد الدينية الإسلامية واليهودية معا، وكذلك اختارت لحظة العالم منشغل فيها بأوكرانيا عالميا، والشرق الأوسط منشغل فيها بالسودان، بعد أن هدأت جبهات ليبيا وسورية واليمن، والأهم بالنسبة لحكومة بنيامين نتنياهو، أنها الحكومة الأكثر تطرفا، والتي تواجه المشاكل الداخلية، خاصة كلما ظنت أن اللحظة صارت مناسبة للتصويت على خطة وزير العدل الخاصة بتقويض القضاء.
ارتكبت إسرائيل مجزرة حقيقية بحق مدينة ومخيم جنين، واستهدفت تدمير المخيم الذي يعتبر دفيئة وحاضنة مقاومة، ربما أنها بذلك كانت تعيد تجربة ترحيل سكان معسكر الشاطئ بغزة بعد انطلاق الانتفاضة الأولى، حيث كانت تعتبره صاعق الانتفاضة، فقامت بهدم أجزاء من المخيم ونقل سكانها إلى حي الشيخ رضوان، لكن اضطرار إسرائيل أولا، إلى أن تكون حربها خاطفة أي لا تستمر سوى يومين، يرجح حديثها عن انتهاء العملية بعد تحقيق أهدافها، بأن المقصود من تلك الأهداف هو الأهداف السياسية، ذلك أن مقاومي جنين لم يهربوا، بل اشتبكوا مع جيش الاحتلال، الذي اجتاح المدينة والمخيم بالطائرات أولا، كذلك واجهوه بتكتيك زرع العبوات الناسفة وإقامة الكمائن، التي كانت تعني أنه في حال توغل داخل المدينة والمخيم، وأطال أمد الحرب، فإنه سيتعرض لحرب عصابات تلحق به الخسائر البشرية دون ريب.
كل هذا، وباستثناء عملية الدهس في تل أبيب، لم يتم فتح كل الجبهات، والعدو كان على إدراك تام، بأن تمديد أمد الحرب، وتجاوز ما هو مخطط لها كحرب خاطفة، سيفتح كل الجبهات عليه، كذلك طبعا سيفتح الأبواب أمام التفاعلات السياسية في المنطقة والعالم، وحقيقة الأمر، أن إسرائيل التي تجرب كل شيء وتفشل، وذلك منذ عدة سنوات، ربما تكون قليلة، لكنها حاسمة، هي الآن في «ذروة» تطرفها، تدفع من أجل طي ملف الاحتلال، على غنيمة الحرب، أي ضم الأرض، لإبقاء حالة المواجهة مستمرة ويومية، وهي تقوم بتبادل الأدوار بين الجيش والمستوطنين، وتمني النفس بأن يستسلم الشعب الفلسطيني، ويتوقف عن إصراره على إنهاء الاحتلال وإقامة دولته المستقلة على كل أرض القدس والضفة والقطاع، لكن وحيث إن الشعب الفلسطيني ما زال يقاوم ميدانيا وسياسيا، ويمنع الوصول إلى تلك اللحظة، التي يصبح بمقدور إسرائيل فيها الإعلان رسميا عن الضم، فإن ذلك يعني أن كل ما فعلته إسرائيل طوال 56 سنة، بما في ذلك زرع المستوطنات سيذهب أدراج الرياح.
بعد يومين من الجحيم، يمكن القول إن إسرائيل قتلت نحو عشرين وجرحت أكثر من مئة مدني فلسطيني، واعتقلت نحو 300 شاب، وهدمت 80% من ألف منزل في مخيم جنين، أي أنها كما أشرنا، سعت إلى تطهير عرقي للمخيم، كونه حاضنة مقاومة، وهي دفعت ثمن ذلك قتيلا من جنودها وعشرة جرحى في تل أبيب، والأهم والأخطر، أنها أوغلت الصدور الفلسطينية حقدا متجددا عليها كدولة احتلال، وقد توحد الشعب الفلسطيني في كل مكان ضدها، ولم يعد هناك من يمكنه أن يقول بإمكانية تحقيق السلام مع حكومتها الحالية، بل مع أي حكومة قادمة، خلال عدة سنوات من غير المتوقع أن يحدث خلالها تحول داخل إسرائيل، وهذا يعني تضاؤل مؤيدي السلام والتسوية في الجانب الفلسطيني، فضلاً عن القبول بالتعايش، والشعب الفلسطيني المتمرس بالمقاومة، يستحيل على مثله أن يقبل الخضوع والرضوخ للاحتلال الأجنبي الخارجي.
أي أن إسرائيل أقامت جدارا إضافيا من الكراهية، ووسعت من دائرة مؤيدي المقاومة في الجانب الفلسطيني، وحرب إسرائيل ظالمة فيما حرب فلسطين عادلة، لذا طال الزمان أم قصر، ستنتصر فلسطين وستهزم إسرائيل، إسرائيل التي ما زالت تظن أن القوة العسكرية، وإرهاب الدولة، والقتل والتدمير يمكنها أن تغير الحقيقة الدامغة كالشمس، والتي لا يختلف عليها اثنان على هذه الأرض، وهي أنها تحتل أرض وشعب فلسطين، وما عليها إلا أن تخرج من جنين ونابلس والخليل والقدس وغزة، وأريحا، وطولكرم، ورام الله، دون رجعة، وإلا ستظل تبحث عن المستحيل وتدور حول نفسها، ترتكب كل يوم جريمة أو مجزرة، فتثقل من مخزون كراهية الدنيا كلها لها، إلى أن يبدأ العالم يتساءل عن جدوى وجودها كدولة احتلال عنصري.