تكلمنا عن العداء للسامية، وكيف تجلى اليهودي في التحوّلات اللاعقلانية والمتناقضة للعداء بوصفه مُحرّضاً على مؤامرة الشيوعية على الكنيسة والحضارة الغربية مرّة (كما زعمت مخابرات القيصر في "البروتوكولات") ومتآمراً على الشيوعية نفسها وجنّة النظام الاشتراكي الموعودة (كما زعمت الدعاية السوفياتية الرسمية في مؤامرتي الأطباء في موسكو، وقادة الحزب والدولة في براغ) مرّة ثانية.
ورجحنا أن تكون التحوّلات، خاصة في تجلياتها الأخيرة، قد شكّلت مكوناً عضوياً في التجربة التكوينية الأولى لكونديرا الشاب، ووضعت خطاه على أوّل طريق "الكفر" بالنظام الاشتراكي، وثقافته السائدة التي تزعم امتلاك إجابات كافية وشافية لكل شيء تقريباً. لم يكن في التناقض الفادح والفاضح بين وجهي العملة الواحدة للعداء للسامية ما يمكّن أحداً من رفاهية الحياد، أو يعفيه من شبهة التواطؤ، إذا أراد التأقلم مع الشرط العام، ولم يكن فيه ما يبدد غواية الانشقاق، أيضاً.
وبهذا المعنى، تبدو المسألة اليهودية وثيقة الصلة بخيارات التأقلم والانشقاق بالنسبة للكثيرين، وتتمفصل في حالة كونديرا، بالذات، مع تفاصيل عائلية أيضاً: كانت زوجته الأولى يهودية، كما أجهضت التوجّهات العامة طموحات أبيه الموسيقية حين لم تتقبل إقباله على عزف مقطوعات موسيقية شاءت الصدف أن يكون أصحابها من اليهود (قد نجد في هذا التفصيل العائلي ما يفسر، جزئياً، حضور الموسيقى، واستلهام بعض تقنياتها، في أعماله الروائية).
ومع ذلك، وعلى الرغم من أهمية ما تقدّم، إلا أن ثمة مصادر إضافية لتمفصل المسألة اليهودية، مع تفاصيل في السيرة العائلية لروائي من أوروبا الوسطى صار مرشحاً للانشقاق في زمن الحرب الباردة. وفي سياق كهذا، ثمة ما يبرر التذكير بمصدرين لا غنى عنهما لفهم انقلاب الناس من النقيض إلى النقيض: عدم تعاطف المواطنين مع قضايا اعتنقتها أنظمتهم الشمولية كسياسة رسمية للدولة، وما وسم حضور المثقفين اليهود في الثقافة الغربية من النوستالجيا بعد كارثة الهولوكوست.
بالنسبة للمصدر الأوّل، يرتاب مواطنو النظام الشمولي، عموماً، في تحالفات وصداقات وقضايا يعتنقها، ويروّج لها، نظامهم. وتندرج ردة الفعل هذه في سياق معارضة صريحة، أو مُضمرة، للنظام. ويمكن التحقق من أمر كهذا بأثر رجعي، من خلال ردة الفعل السريعة، والتي لم تخل من مبالغة، في اعتناق ما كان تابوهات سياسية وأيديولوجية في زمن مضى. لذا كان في العناق الحار، والأعمى، للدولة الإسرائيلية، في روسيا ودول في أوروبا الشرقية والوسطى، وفتور العلاقة بالعرب، وقضاياهم، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الاشتراكية، ما يشبه عودة المكبوت.
أما المصدر الثاني (الذي يعنينا) فيُلقي ضوءاً كاشفاً لا على موقف كونديرا من إسرائيل وحسب، ولكن على الطريقة التي عثر فيها على مخرج من تناقضات ومفارقات عالمه كمواطن، وروائي طموح، في دولة شمولية، وصاغ بها علاقته بفن الرواية، وفلسفته في الحياة، وعلاقته بالعالم، أيضاً. تجدر الملاحظة، هنا، أن هذه الأشياء كلها تتجلى كعناصر متضافرة ومتضامنة في خياراته الشخصية والسياسية والروائية، إلى حد أن زعزعة عنصر منها يقوّض البنيان.
نقطة البداية، في هذا الشأن، ما سبق الكلام عنه: هشاشة الكائن الإنساني في ظل الشمولية أولاً، ومدى ما تشكّل تجربة العيش في ثقافة الجواب الكافي والشافي من تهديد لسلامة العقل ثانياً، وما يتجلى في العداء للسامية من تناقضات منطقية ثالثاً. هذا هو النص الصامت، وهذه هي أضلاعه الثلاثة في تشخيص كونديرا لحضارة الغرب بوصفها حضارة السؤال. التشخيص الذي افتتح به الكلام عن الفن الروائي في كتاب يحمل العنوان نفسه، وكرره في مناسبات مختلفة.
لا يتسع المجال، هنا، للكلام عن التحفّظات التي وسمت الوجود الإشكالي للروس في المخيال الثقافي والحضاري الغربيين (نسمع أصداء تحيّزات معادية للروس على مدار قرون مضت حتى في الحرب الدائرة في أوكرانيا هذه الأيام). ويكفي القول إن في مقارنة حضارة السؤال الغربية بحضارة الجواب التي فرضتها الشيوعية الروسية كثقافة سائدة في الاتحاد السوفياتي وبلدان الكتلة الاشتراكية، ما يمكننا من العثور في تشخيص كونديرا على الأصداء نفسها، ولكن في سياق مختلف، بطبيعة الحال.
وفيما يشبه تسلسلاً منطقياً في الكلام عن "الضد الذي يظهر حسنه الضد" كان ثمة ما يستدعي البحث عن، والتماهي مع، نماذج ثقافية مضادة، أيضاً. وبهذا المعنى، وفي سياقه، تجلى دور المثقفين اليهود الأوروبيين، وما رافق حضورهم من نوستالجيا في النسق الثقافي والسياسي الغربيين، بعد كارثة الهولوكوست على نحو خاص.
والواقع أن في هذا الأمر ما سيمكننا من تفسير خيارات كونديرا الشخصية والروائية على ضوء عبارات وردت في خطاب قبول جائزة الإسرائيليين في العام 1985. ومن حسن الحظ أننا نملك مرجعاً فائق الأهمية، ويصلح كوسيلة إيضاح، أيضاً، يتمثل في "اليهودي اللايهودي" لاسحق دويتشر (نشر مصطفى الحسيني ترجمة للكتاب في مصر، مع تعليقات ومقدمة قبل عقود طويلة).
دويتشر هو صاحب السيرة البديعة لتروتسكي ("النبي الأعزل"، و"النبي المنبوذ"، و"النبي المسلّح"، ولعلها من أهم كتب السيرة في القرن العشرين) وقد حاول في مشروع أصغر حجماً تشخيص ما أسماه باليهودي المهرطق، الذي أنجبته عملية الانعتاق منذ بدايتها في أواخر القرن الثامن عشر، في النسق الثقافي والسياسي الغربيين. اليهودي الذي ضاقت اليهودية عليه، وضاق بها في حالات كثيرة، وفي الأثناء ترك بصمة دائمة على الغرب وثقافته. نفسّر هذا وعلاقته بخيارات كونديرا الشخصية والروائية، في معالجة لاحقة. فاصل ونواصل.