استيقظ سكان قطاع غزّة، صباح اليوم السبت، على فاجعة انتحار شاب عشريني، كان قد ترك منشوراً عبر صفحته في موقع "فيسبوك"، يودع فيه أمه وأشقاءه. ويؤكد استسلامه لمرض الاكتئاب الذي يُصارعه مُنذ ثماني سنوات. والمتتبع لصفحة الشاب المنتحر، لا يجد في منشوراته أيّ أثر لمعاناته من الفقر المعيشي أو القهر الوظيفي، وإنّما غلب عليها، حسه الوطني، حيث يُعرف نفسه بالشاعر المنتمي لاتحاد الكتاب؛ الأمر الذي يستدعي وقفة جادة من المجتمع ليأخذ الطب النفسي موقعه كما طب الأبدان في ظل هشاشة الحياة النفسية التي يعيشها سكان غزّة بفعل الحروب المتلاحقة والحصار والانقسام الداخلي المستمر مُنذ 17 عاماً.
غزة تحتل المرتبة الأولي بالصدمة النفسية والاكتئاب
لكِن بالمقابل، نجد الكثير من حالات الانتحار أو الذين تُراودهم الفكرة في قطاع غزة، يُعانون من ظروف اقتصادية قاهرة، كما كان الحال قبل أسبوعين، مع شاب ثلاثيي، تراكمت عليه الديون، فأقدم على الانتحار. صحيح أنَّ الانتحار في غزّة ليس ظاهرة؛ لكِن هذه الحالات الفردية مُخيفة وتستدعي وقفة جادة على كافة المستويات بدءًا من الأسرة مروراً بالمؤسسات التعليمية والصحية للحيلولة دون تكرارها؛ فتداعياتها سلبية جداً على المجتمع.
وقد أظهرت نتائج مسح جديد أجراه البنك الدولي والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، أنَّ أكثر من نصف المجتمع الفلسطيني مصاب بالاكتئاب، بواقع 71% من سكان قطاع غزة، و50% بالضفة، و58% ممن هم فوق الـ 18 عاماً.
ووفقاً للمسح الذي أُجري خلال عام 2022 لفحص ظروف الصحة النفسية في فلسطين وشمل أكثر من 6140 أسرة فلسطينية بشكل كامل، وأكثر من 5876 بشكل فردي، فإنَّ 7% من الفلسطينيين أُصيبوا بالاضطراب ما بعد الصدمة.
وحلّت غزّة في المرتبة الأولى فيما يتعلق بالصدمة النفسية والاكتئاب نتيجة لتلاحق الحروب الإسرائيلية عليها وجولات التصعيد المتكررة، إلى جانب تداعيات الحصار المتواصل للعام السابع عشر على التوالي دون أفق لانتهائه.
وبحسب المسح الذي أجراه البنك الدولي والجهاز المركزي للإحصاء، فقد بلغت نسبة من هم على مستوى خط الفقر المدقع 50%، ومن هم دون ذلك 70%، عدا عن الذين يعملون ساعات أكثر، فهم معرضون لاضطرابات الصحة النفسية الشائعة والتي لها علاقة طردية بالفقر المدقع.
وستجيب السطور القادمة عن كل التساؤلات التي تدور حول الكآبة وهل تؤدي إلى الانتحار؟ وبشأن أبرز مؤشرات الاكتئاب التي يجب التوقف عندها؟ وبشأن طرق مساعدة المكتئب؟.
الاكتئاب.. اضطراب نفسي قد يتحول إلى عقلي
من جهته، أوضح أستاذ علم النفس في جامعة الأقصى بغزّة، درداح الشاعر، أنَّ "الاكتئاب، هو اضطراب نفسي وممكن أنّ يتحول في بعض الأحيان إلى اضطراب عقلي لا يستطيع فيه الإنسان أنّ يرى بصيص أمل في الحياة؛ لأنّه ينظر لها بسوداوية، ويعتقد أنّ الحياة ستتكالب عليه بهمومها وأوجاعها وابتلاءاتها، وبالتالي يُفكر كثيراً المكتئب بأنّ يُقدم على الانتحار؛ ولكِن تنفيذ الانتحار هو خطوة متقدمة".
وأضاف الشاعر، في حديثٍ خاص بوكالة "خبر"، أنَّ معظم المصابين بالاكتئاب يبدأوا في التفكير بالتخلص من المشاعر السلبية عن طريق الانتحار.
وتساءل: "لكِن هل سيقدم هذا الشخص على الانتحار أم لا؟"، مُجيباً: "الاكتئاب البسيط لا يؤدي إلى أنّ يقترف الإنسان جريمة الاكتئاب بحق نفسه؛ بل الاكتئاب المعمق والكبير يُحاول الإنسان معه أنّ يُقدم على الانتحار؛ ليتخلص من المشاعر السلبية ومن الممكن أنّ تفشل عملية الانتحار ويعود إلى الحياة بمساعدة الآخرين".
كما أوضح الشاعر، أنَّ الاكتئاب يُمثل نسبة كبيرة جداً من الاضطرابات النفسية والعقلية في العصر الحديث.
الأرضية النفسية في غزة ليست مُريحة
وبالحديث عن نسب الاكتئاب في مجتمع غزّة الذي يُعاني من الفقر والبطالة في صفوف الشباب والخريجين؛ نتيجةً للحصار الإسرائيلي والانقسام الداخلي، رأى الشاعر، أنَّ الأرضية النفسية التي يتحرك عليها الإنسان الفلسطيني في غزّة ليست مريحة، لأنَّ الكثير من الاحتياجات غير متوفرة للإنسان الفلسطيني على الإطلاق.
وأكمل: "الإنسان بشكل عام له احتياجات إذا تمت تلبيتها، شعر بالسعادة والصحة النفسية أو العقلية"، مُستدركاً: "إذا نظرنا للواقع النفسي لسكان غزّة، بفعل الحصار والإغلاق والانقسام، فكل هذه العوامل التي يتعامل معها الإنسان الفلسطيني ليس في غزّة وحدها وإنّما في الضفة أيَضاً، تدفع للشعور بالاكتئاب واليأس والسلبية".
واستدرك: "لكِن من يصلون لمشافي الأمراض النفسية، هم من يُعانوا من الكآبة في الحالات الشديدة"، مُؤكّداً في ذات الوقت على أنَّ الكثير ممن يعيشون بيننا ويشعرون بالاكتئاب يُفكرون ليل نهار بالانتحار، وفي حال أنّهم لم يجدوا المساعدة في مراحل متقدمة من الاكتئاب، سيقدمون على هذه الخطوة.
وأشار إلى أنَّ حوالي 30% من مرضى الاضطرابات النفسية هم من المصابين بالاكتئاب، وهي نسبة على مستوى العالم كبيرة جداً، مُبيّناً أنَّ الكآبة قد تكون مسؤولة عن موت عدد كبير جداً من المضطربين نفسياً.
كما نفى أنَّ تتوفر إحصائيات دقيقة حول المصابين بالكآبة؛ لأنَّ هذه المسائل لا تُعرض على الطب النفسي ولا يذهب لها الإنسان إلا في مراحل متقدمة، ولكِن يوجد الكثير من الشباب والشيوخ والنساء والفتيات يُعانون من الاكتئاب، نتيجة للواقع النفسي الأليم.
ونوّه إلى أنَّ دفاعات الإنسان النفسية لمواجهة الاكتئاب قد تكن قوية في فترة ما، ولكن إذا لم يجد المساعدة الاجتماعية، ستضعف هذه الدفاعات وتتكالب عليه الأفكار السلبية التي تُراوده للانتحار.
علامات الاكتئاب
وحول أبرز علامات الاكتئاب التي يجب الانتباه لها لإنقاذ المكتئب، قال الشاعر: "إنَّه يوجد العديد من المظاهر الجسمية والنفسية والاجتماعية للاكتئاب، ولعل أشهرها هو انغلاق الإنسان على الذات حيث يعيش في عالمه الخاص ولا ينفتح على المجتمع ولا يستطيع تخطي هذه المشاعر السلبية".
وتابع: "المكتئب، من خصائصه أيضاً، النظرة التشاؤمية للحياة، فهو دائماً السخط على الحياة وعلى نفسه وعلى الواقع، ولا يؤمن بأنَّ مع العسر يسرا وأنَّ الله قادر على تغيير الأحوال الصعبة إلى الأفضل".
وأضاف: "بالتالي المكتئب، يُحاول الانتحار دائماً وليس مجرد التفكير بالانتحار"، مُشيراً إلى أنَّ نمط الحياة للمكتئب يتغير تغيراً جذرياً بزاوية 180 درجة؛ بمعنى لو كان يأكل بنمط معين يتغير، وإذا كان عنده تواصل اجتماعي يقطع علاقاته مع أقرب الناس معه، وإذا كان طالب يتأخر مستواه، وكذلك تسوء علاقاته على المستوى المهني.
وخلص الشاعر، إلى أنَّ مؤشرات الاكتئاب كثيرة جداً وواضحة وبسيطة، وعلى أسرته أنّ تُدرك بأنَّ ابنها يُعاني من الكآبة بالعزلة والوحدة.
الأسرة أول من يقُدم المساعدة للمكتئب
وبشأن كيفية مساعدة الشخص المكتئب حتى لا يصل إلى الانتحار، رأى الشاعر، أنَّ "الكآبة، تتولد نظراً لابتعاد المجتمع عنه؛ فلو وجد الجماعة والرفقة الطبية واليد الحانية من الأسرة والأصدقاء تقف إلى جانبه وتُعطيه فسحة من الأمل في الحياة، لما وصل إلى هذه الحالة.
واستطرد: "لكِن في كثير من الأحيان، يُعاني الإنسان من الحزن والكآبة مُنفرداً ولا تكاد الأسرة تشعر به، وتعقتد أنَّ هذا عالمه الخاص ولا يجب اختراقه ويجب أنّ يعيش بطريقته الخاصة، فهناك كثير من الناس يقولون إنَّ الإنسان بحاجة إلى أنّ يعيش فترة من العزلة، ولا يُدركون أنّها قد تقوده إلى التفكير بالانتحار أو الانتحار الفعلي؛ وبالتالي تضعف نفسيته وتُصبح هشة إلى درجة أنَّ أيّ صدمة مهما كانت بسيطة قد تدفعه للانتحار".
ولفت إلى أنَّ بعض الشباب كان يقدم على الانتحار، إذا عجز عن سد 1000 شيكل دين عليه، وعند تعرضه لبعض الإحباطات على مستوى الزوجة والأبناء وعلى مستوى الأسرة، لأنَّ المكتئب تبدأ صلابته النفسية في الضعف والتراجع تدريجياً.
وشدّد على أنَّ الجماعة والأسرة هي أول من يُقدم المساعدة للمكتئب، ولابّد أنّ تبدأ معه البرنامج الديني والرياضي والرفقة الطيبة والأصدقاء، والذهاب للمتنزهات والألعاب الرياضية وسرد القصص المثيرة للإعجاب؛ وبالتالي الأسرة تستطيع أنّ تتغلب قبل أنّ يصل الإنسان إلى مستشفى الأمراض النفسية ولإعطاءه مضادات الاكتتاب.
فاقد العقل غير مكلف بشىء
أما حول جدلية تحريم انتحار المكتئب، وإنّ كان واعي بحرمه فعله أم أنّ المرض يُغيب عقله، رأى الشاعر، أنَّ "الاكتئاب، درجات فهناك البسيطة والمتوسطة والقوية والشديدة، ويُمكن تمييز ذلك بمجرد أنّ يكون هناك تغيير في مستوى الحياة والنمط السلوكي لحياة الإنسان.
كما شدد على أهمية تواصل أسرته، مع المرشدين والأخصائيين النفسيين الذين يعملون في المراكز النفسية، مُضيفاً: "لكِن ابتعاد الجماعة عنه وتركه يواجهه المشاعر السلبية ودفاعاته النفسية هو أمر خطير، لأنّه لا يستطيع أنّ يواجه هذه الدفاعات مُنفرداً".
وتابع: "لذلك يجب الذهاب للطبيب؛ كي يعطيه بعض المهدئات ويضع له برنامجاً علاجياً، ويُعطيه فسحة من الأمل في الحياة، وإذا كانت لديه بعض المشكلات التي تُسبب له الكآبة سواء نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، فيذهب إلى الطبيب لدراسة ملفه من جميع جوانبه ويبدأ خطة العلاج".
وختم الشاعر حديثه، بالتحذير من ترك الإنسان لدرجة اللاعودة، وانقطاع التفكير المنظم وانعدام الإدراك، مُعتقداً أنَّ هذا الذنب يعود على المجتمع والأسرة بالمقام الأول، أما إذا فقد الإنسان الإدراك وأقدم على الانتحار، ففاقد العقل غير مكلف بشئ وغير مسؤول عن شيء، وحينها تكون القضية خارجة عن التصور العقلي للإنسان وإدراكه، لذلك الأصل أنّ نلجأ إلى حسم مشاكل أبنائنا على المستوى البسيط والمعقد وأنّ لا نتركهم لهذه الاضطرابات القاتلة".