مغامرات العقل الإسرائيلي كلّها قاتلة

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

إذا أردنا تشخيص العقل الإسرائيلي في العقود الأخيرة على الأقلّ فإنّ هناك سمات ثلاثا يعبّر عنها هذا العقل في هيئة مغامرات قاتلة:
السمة الأولى، هو أنّ هذا العقل يزداد قناعةً بأنّ إسرائيل كيان خاص وفريد، لا يشبه أيّ كيان آخر، ولا توجد كيانات تماثله أو توازيه أو تساويه.
كيان بحقوق خاصة، لا تخضع للعام والمشترك مع الكيانات الأخرى إلّا بقدر ما يقبل العام والمشترك هذه الحقوق.
ولذلك بالذات فإنّ السيطرة والهيمنة حقّ حصري ينبع من خصوصية الحقوق، بحيث تتحوّل أيّ محاولة للحدّ من هذه الهيمنة وكأنّها اعتداء صارخ على هذه الحقوق.
في هذا الإطار، لا يرى العقل الإسرائيلي أيّ أهمية للعام المشترك مع الكيانات الأخرى، وهو عقل مستعدّ للعداء والخصومة مع أيّ قانونٍ أو شرعية، أو دولة أو مجتمع لا يتبنّى "أحقّية" الهيمنة والسطوة والسيطرة الإسرائيلية.
لم يتزعزع هذا الاعتقاد حتى يومنا هذا لأسباب كثيرة لعلّ من أهمّها أنّ القوّة، والمزيد من القوّة، والبطش بأعتى أشكاله بقيت تغذّي هذا الاعتقاد.
الاهتزازات القليلة التي مرّ بها هذا الاعتقاد كانت تؤدّي بالعقل الإسرائيلي دائماً إلى الماضوية، الماضي السحيق للرواية اليهودية، والماضي القريب الذي كرّسته "المحرقة".
أي أنّ الماضي البعيد والقريب أدّى بالعقل الإسرائيلي إلى (العدمية المستقبلية)، وأبقى اليهود أسرى لمستقبل باتجاه وحيد، وهو استمرار الحقوق الخاصة، واستمرار الهيمنة والسيطرة، واستمرار القوّة والمزيد منها لتأمين هذا المستقبل بالاتجاه الوحيد.
هذه المغامرة للعقل الإسرائيلي رهنت يهود إسرائيل، وإلى حدٍّ معيّن يهود العالم بعنصر القوّة والتفوّق، وحرمت المجتمع اليهودي من الانفتاح على خيارات بديلة من شأنها أن تقلّل الاعتماد الوحيد على عناصر القوّة والتفوّق، وأصبح الافتقاد إليهما في ظروف معيّنة، راهنة أو مستقبلية بمثابة مغامرة قاتلة.
وربما أنّ أخطر ما تنطوي عليه هذه المغامرة خسارة القدرة على التكيُّف في اللحظات الانقلابية، والذهاب والتحوُّل القاتل من مغامرة العقل إلى جنونه وانفلاته التام.
والذي أراه أنّ إسرائيل الآن تتواجد في صلب هذه المغامرة، وفي قلب هذه المعادلة، وهذه السمة الأولى.
السمة الثانية، هو الاعتقاد "الراسخ" بأنّ المجتمع سيتماسك طالما أنّ التهديدات الخارجية ماثلة أمام هذا المجتمع، وأنّ الصراعات الداخلية ستجد المخارج والحلول المناسبة للإبقاء على درجة معيّنة من هذا التماسك، مهما بلغت هذه الصراعات والتناقضات من حدّة أو تفاقم، لأنّ ما يوحّد المجتمع أكبر بكثير ممّا يفرّقه، وأنّ "المصير" المشترك قد تمّ من خلال عملية صَهر أو انصهار لم يعد ممكناً تجاوزها.
تعايش العقل الإسرائيلي واعتاش عليها حتى العقود الأخيرة، ولم ينتبه هذا العقل أنّ الكيان اليهودي في إسرائيل قد تجاوز هذه المعتقدات، وتخطّى الرومانسية الفكرية التي غلّفت هذه الأفكار، وحوّلتها إلى مسلّمات ثقافية و"تطمينات" سياسية.
فقد وصل "اليمين الجديد" في إسرائيل إلى ما هو أبعد من سدّة الحكم، لأنّه أصبح واقعياً يستولي على مقدّرات كلّ أطياف "اليمين"، وتراجع "اليمين" و"يمين الوسط" أمام اجتياح "الكهانية" في إسرائيل، وتحوّلت مقولات ومفاهيم "الكهانية" السياسية والثقافية إلى (عقل جمعي جديد)، ولم يعد باستطاعة أحد، لا في حزب "الليكود"، ولا حتى في الأحزاب الدينية، الشرقية والغربية الخروج من نطاق هذا العقل.
أي أنّ العقل الإسرائيلي في مغامرته الجديدة القاتلة ما زال يرى في "الكهانية" الصاعدة والمتفشّية مجرّد ألاعيب سياسية قابلة لإعادة (الهندسة والترتيب)، ولم يعد يرى هذا العقل أنّ "الكهانية" وهي تنظيم مسلّح ستبطش بكلّ من يقف في طريقها، وأنّها لن تنضبط للقواعد الناظمة للمجتمع اليهودي في إسرائيل كما كانت عليه حتى الآن، وأنّ فرصة التعايش الوحيدة القابلة للحياة هي قبول وتقبُّل أفكار "الكهانية" وثقافتها، والتسليم بها، واعتمادها أساساً وحيداً لبناء الدولة وإدارة المجتمع، وأنّها ــ أي "الكهانية" ــ يمكن أن تتعايش مع تيّارات أخرى في المجال السياسي العام، أو في الإطار السياساتي الأوسع شريطة أن تبقى أسس بناء الدولة والمجتمع على قاعدة مسلّم بها من الثقافة "التلمودية".
والذي أراه هنا هو أنّ إسرائيل تتواجد الآن في هذا الحيز الذي عليها أن تختار فيه بين الحرب الأهلية المفتوحة، وبين الخضوع للمعادلة الداخلية الجديدة فيها.
وفي الحالتين، وصل العقل الإسرائيلي إلى مغامرة قاتلة لا يبدو أنّ بالإمكان التحايل عليها "بحفنة" من الشعارات، أو بالتذاكيات المعهودة في مناورات العقل السياسي في إسرائيل، وهذه هي السمة الثانية.
أما السمة الثالثة من مغامرة العقل الإسرائيلي، فهي المعادلة الجديدة للعلاقة ما بين القدرة الفائقة من القوّة، ومن استخدامها، وما بين العجز والفشل في الوصول إلى الحسم.
صحيح أنّ مسألة الحسم كانت تتعثّر في العقدين أو الثلاثة الأخيرة، وصحيح أنّ هذا التعثُر كان قابلاً للتجاوز في مناسبات عدّة، إلّا أنّ إسرائيل من خلال الحرب التي تشنُّها على الشعب الفلسطيني قد أثبتت للولايات المتحدة الأميركية، ولـ"الغرب"، وهي بصدد أن تثبت لنفسها، أيضاً، أنّ الحسم لم يعد في متناول يدها.
فقد عجزت حتى الآن أن تحقّق شيئاً من أهدافها المعلنة، وأمّا كل ما استطاعت أن تنجزه من مجازر وتدمير وقتلٍ جماعي فقد أوقعها في شركٍ سياسي على أعلى درجات الخطورة، ووضعها أمام مساءلات لم تتعرّض لها، وأصبحت موضوعياً تحت طائلة المحاسبة، ولم يعد بالإمكان المناورة كثيراً في ساحة القانون الدولي، وخسرت كلّ ما حاولت أن تبنيه من خطاب المظلومية والضحيّة، وأصبحت دولة مارقة شرّيرة في نظر الغالبية الساحقة من شعوب الأرض وبلدانها.
كان يمكن أن تدير إسرائيل ظهرها لكلّ هذا لو أنّها حسمت الحرب، أو لو أنّها حقّقت انتصاراً حاسماً فيها.
ليس هذا فقط وإنّما وصلت إلى الحدّ الذي يتحوّل فيه الحسم المطلوب إلى أكبر مغامرة للعقل الإسرائيلي على مدى كامل عمر الكيان، وأخطر مغامرة على وجودها وبقائها.
وهي اليوم تتواجد في المنطقة التي تحتاج إلى حسمٍ غير ممكن، وتراجع سيفجّر كلّ تناقضاتها الداخلية والخارجية على حدٍّ سواء.
مغامرة العقل الإسرائيلي في قوّة العنجهية، وعنجهية القوّة المتلازمة والمترافقة مع الفشل والعجز تتحوّل إلى مغامرة قاتلة.
فمن جهةٍ، يريد العقل الإسرائيلي أن يحسم الانتصار، ومن جهةٍ أخرى يعجز عن تحقيقه، وفي الأثناء عنجهية ضُربت في أحد أكبر مركّباتها العصبية، وقوّة تعجز عن إعادة العقل الإسرائيلي إلى جادَة التوازن.
إسرائيل وعقلها يلاطشان بين من يريد أن يُهجّر ملايين الفلسطينيين، ومن يريد أن يمحو مئات الآلاف منهم، ومن يريد أن يحكم قطاع غزّة بالقوة العسكرية، ومن يريد أن يعود للاستيطان هناك.
وكلّ هذا، وكلّ هذه الأمنيات والأحلام والأوهام قبل أن تتمكّن دولة بكامل قوّتها وقوّاتها، بعديدها وأسلحتها المتفوّقة من استرجاع أسيرٍ واحدٍ بعد حوالى مئة وعشرين يوماً من العدوان.
وما زالوا يعتقدون أنّ لهم حقوقاً حصرية خاصة، وهم فوق القانون، وليس لهم مثيل، ولا يشبهون أحداً، ولا أحد يشبههم على الإطلاق.
عقل مغامر، لن يؤدّي إلا إلى الهاوية.
وليس هناك بعد ولا مغامرة واحدة لها علاقة بالعقل، أقصد لا يوجد حتى الآن مغامرة عاقلة واحدة.