لو كانت إسرائيل ترى أنّها قادرة على تحقيق أهدافها من هذه الحرب، فلماذا لا تذهب إلى الهدنة إذاً؟
وماذا يضير إسرائيل ــ إذا كانت واثقة من نفسها ــ أن تذهب إلى هدنة بالشروط المطروحة؟
فمن ناحية أولى، تتخلّص ولو جزئياً من صداع أهالي الأسرى، وتمتصّ هذا الغضب الذي يتحوّل إلى شرارةٍ بعد شرارة لاشتعال احتجاجات جديدة، كبيرة وعارمة، ليست الحكومة الإسرائيلية بأزماتها الحالية المتلاحقة بحاجة لها، بل هي أقرب ما تكون إلى ضرورة إنهاء كلّ مفاعيلها التي باتت المصدر الأوّل والمباشرة لحالة الإرباك والارتباك التي تعيشها.
ومن ناحيةٍ ثانية، فإنّ الهدنة يمكن أن تسمح لإسرائيل بإعادة تنظيم قواتها على جبهتي قطاع غزّة مع المقاومة الفلسطينية، وجنوب لبنان، مع قوات «حزب الله» هناك، وهو أمر تحتاج له في الواقع بعد كلّ ما شهدناه من انسحابات لألوية كاملة، وبعد كلّ الاستبدالات التي قامت بها هيئة الأركان الإسرائيلية في محاولة لترميم الألوية التي تعرّضت لخسائر كبيرة جعلت من هياكل هذه الألوية أقلّ قدرة على الاستمرار بالقتال، بل أدّت إلى استبدالات لم تكن في حسبان إسرائيل قبل الحرب البرّية، ولم تكن تتصوّر أصلاً أنّ بنى هذه الألوية ستتصدّع إلى درجة اعتبارها غير قادرة على الخدمة الفعّالة في الحرب.
وأمّا من ناحية ثالثة، فإنّ إسرائيل من خلال هدنة كهذه تستطيع أن تهدئ من روع الإقليم كلّه، وتستطيع أن «تبيع» موافقتها على هذه الهدنة لـ»الغرب» باعتبارها «تنازلاً» كبيراً، وتستطيع قبل كلّ ذلك أن تعطي لواشنطن فرصة أكبر وأوسع بكثير لترتيب أوراق جديدة نحو صياغة استراتيجيات جديدة تحتاجها واشنطن لمرحلة ما بعد الحرب، ومن أجل إعادة سيطرة الأخيرة على مفاتيح أكثر ثباتاً واستقراراً في معادلة مستقبل الإقليم.
ومن ناحية رابعة، فإنّ إسرائيل أحوج ما تكون إلى أيّ فرصةٍ لمحاولة ترميم صورتها التي وصلت إلى كلّ حضيض، وباتت هذه الصورة جزءاً من خساراتها الاستراتيجية فيها، وهي بالموافقة على هدنة كهذه يمكن أن تعيد تنظيم هجومها الإعلامي، وتركيز هذا الهجوم نحو اتجاهات جديدة من شأنها إخفاء الجرائم التي قامت بها حتى الآن، أو التخفيف من تفاعلات الاحتجاجات العالمية ضدّ سياساتها، وما تقوم به من حرب إبادة سافرة.
لكن وبالرغم من كلّ ذلك تحاول إسرائيل بكلّ السبل والوسائل عرقلة التوصل إلى هدنة كهذه، وهي تتلاعب بكلّ عناصر هذه الهدنة، وهي تسابق الزمن لإحداث أيّ اختراق، حتى ولو كان شكليّاً في حالة المراوحة التي تعرفها جيّداً، وباتت في موضع الشكّ الكبير حتى من قبل الولايات المتحدة بأنّ هذه المراوحة ليست حالة مؤقّتة من أي نوعٍ، أو على أيّ صعيدٍ، بقدر ما هي مراوحة محكومة بحقائق الميدان، تماماً كما هي محكومة بعوامل إقليمية ليس أقلّها الانجرار إلى صراعٍ أكبر وأخطر بما لا يقاس على جبهة الجنوب اللبناني.
لماذا تناور إسرائيل بالرغم من كلّ هذه «المكاسب» المحتملة، ولماذا تعمل بكلّ الطرق لتفادي هذه الصفقة؟
بل الأدهى من ذلك كلّه أنّها، أي إسرائيل تقوم بعملية التفافية كبيرة من أجل ألّا يكون هناك أيّ آليات من شأنها أن تربط الهدنة بالمفاهيم المطروحة الآن وبين ما اصطلح على تسميته «المراحل القادمة»، الثانية والثالثة، وربّما أكثر، أيضاً.
أي أنّ إسرائيل كما تبدو الأمور حسب آخر الشروط التي تحدثت عنها وسائل الإعلام استطاعت أن «تفصل» ما بين الهدنة وما بين ما كان يسمّى «المراحل الأخرى»، ولم تتعهّد بأيّ وقف لإطلاق النار مع مقولة «إنهاء الحرب» أو حتى توقُّفها، وهو من حيث الشكل على الأقل ما كانت تطالب به، وما كانت ترفض رفضاً قاطعاً أن تتعهّد بأيّ شرطٍ أو مطلبٍ من شأنه أن يربط بينها.
أقصد في تلخيص كلّ ما سبق أنّ إسرائيل ترى نفسها ماضية في تحقيق ما تعلن عنه من أهداف، والهدنة المطروحة لا تلزمها بوقف الحرب بعد الهدنة، والهدنة تحقق لها نظرياً بعض المكتسبات التي ربما تكون بأمسّ الحاجة لها، ولكنها مع ذلك كلّه تماطل، وتراوغ، وتستمر في وضع العراقيل واختراع الحجَج!
لماذا تفعل ذلك، ولماذا تناور هنا بالذات، وما هو الذي يدفعها إلى هذا السلوك؟
إذا أخذنا الأمور بالتحليل المنطقي فإنّ المراوغة الإسرائيلية لا يمكنها أن تنجح في تفسير السلوك الإسرائيلي إلّا على قاعدة الاحتمالات الآتية:
الأول، أنّ إسرائيل لم تحقّق الكثير من الأهداف التي أعلنتها، والتي تستمرّ بالإعلان عنها، وأنّها في الواقع ليست ماضية في تحقيق هذه الأهداف، وأنّ كلّ ما تقوم به لا يعدو أن يكون مراوحة تتواصل منذ عدّة أشهر دون أيّ اختراق حقيقي واحد، ودون أيّ قدرة على الادعاء بوجود مثل هذا الاختراق.
في هذه الحالة تصبح المناورة والمراوغة «مفهومة» لأنّها ما زالت تأمل بأن يحدث شيء ما يساعدها بالموافقة على الهدنة من موقع هذا الشيء.
وهنا يمكن أن يكون هذا الشيء هو اغتيال قيادات كبيرة من فصائل المقاومة في غزّة، أو انهيارات واضحة في قوى المقاومة في مناطق معينة، إذا كان هذا الانهيار متعذّراً في أكثر من منطقة، أو الاستيلاء على مناطق معينة من شأنها أن تنتقل من هذه المناطق إلى مناطق جديدة نحو أنفاق كبيرة، أو حتى نحو العثور على بعض الأسرى الإسرائيليين فيها.
وبالتحليل المنطقي، أيضاً، فإنّ ما يمكن أن يفسّر السلوك الإسرائيلي هو أنّها ــ أي إسرائيل ــ ليست قلقة من توسيع الحرب مع جبهة جنوب لبنان، بل هي تسعى إليها، وتسعى وتأمل بتوريط الولايات المتحدة بها لأنّ الفشل في تحقيق أهدافها على قطاع غزّة قد يؤدّي ــ في حالة توسيع الحرب ــ إلى تحويل ذلك الفشل إلى مجرّد تفصيل في خارطة الصراع الأكبر، وبالتالي يحوّل هذا الفشل في القطاع من فشل خاص إلى دافع لترتيب وضع القطاع في إطار أكبر وأشمل منه.
وبالتحليل المنطقي فإنّ السلوك الإسرائيلي المراوغ حيال الهدنة قد يكون مرتبطاً وقبل كلّ شيءٍ بمخاوف نتنياهو وفريقه من لجان التحقيق، ومن الانتخابات المبكرة، ومن المحاسبة على كامل مرحلة ما قبل عملية «طوفان الأقصى» وأثناء هذه العملية، وطبعاً بعدها، أو بعد الإعلان عن نهايتها.
كلّ هذه الأسباب هي شديدة الارتباط فيما بينها، وهي في الواقع بمثابة أسباب ونتائج لهذا الترابط بالذات، وفي جوهرها التعبير الأدقّ عن مرحلة المراوحة التي يعيشها جيش الاحتلال في القطاع، وعلى جبهة جنوب لبنان، أيضاً، وهي في الواقع يمكن صياغتها بالجملة الآتية: «إسرائيل لا يمكنها أن تقبل الهزيمة أو التسليم بها، ولكنها ليس بإمكانها أن تربح الحرب، لا في قطاع غزّة، ولا في جنوب لبنان»، وهي «تفضّل» الإمعان في حرب الإبادة والتشريد والتجويع لأنّ هذه الحرب لم تصل بعد إلى نقطة إجبارها على وقفها، لأنّ الولايات المتحدة هي بدورها لا تريد لهذه الحرب أن تتوقف قبل أن يكون بالإمكان الإعلان عن الانتصار الإسرائيلي فيها، أو قبل أن يكون بالإمكان الإعلان عن «إزالة» التهديد عنها.
هنا أرى أنّه يجب على حركة حماس أن تناور بدورها، وأن تعرف كيف تدير معركة التفاوض على الهدنة، من على قاعدة هذا الفهم الذي يتيح للحركة هامشاً واسعاً للمناورة.